الحبل المتين الذي يربط بين جميع مكونات الشعب الكندي هو أنهم «كنديون» لا غير، ولا تستطيع أن تؤشر بإصبعك إلى أي فرد هناك على أساس مكونه الأصلي. فلو سألت من تظن من سحنته على أنه هندي أو صيني أو أفريقي فلا يرد عليك إلا بالإصرار على أنه كندي دون العودة إلى الجذور، فهو متناغم مع نفسه ومنسجم مع مجتمعه على هذا الأساس، فهو ما يجبر الزائر الغريب على هذه الثقافة المذيبة لاختلافات الشعوب في بوتقة الاحترام والتقدير وتعظيم السلام الاجتماعي بينهم. ودليلنا الشخصي على روح التعايش هذه، أنه خلال أسبوعين من رحلتنا في أكثر من مدينة هناك لم نسأل ولا مرة واحدة من نكون ومن أين أتينا في أي مكان سكناه أو عبرنا عليه. شعب يبادرك السلام والتحية ويحب أن يحاورك كأنه يعرفك منذ فترة طويلة ويدخل إلى قلبك بلا حواجز صلبة من وحي الدين أو العرق أو اللون أو الطائفة، فكل هذه الموانع الصلبة لدى بعض المجتمعات التي تعاني منها وتتأزم أحوالها بسببها، لا ترى لها حساً هناك ولا خبراً، وهذا الوضع الكندي ليس من السهولة أن تجده في صناعة حضارية تلامس العصر في كل محتوياته الحديثة، ثقافة وعلماً وتطوراً وتقنية واعتماداً على الذات قبل اللجوء إلى الثروات ذات العدد أو النوع، ثروة كانت أو طاقة، فعجلة الحياة هنا لا تتوقف عن الدوران لبطء الآخرين من حولها. دخلنا الصين من البوابة الكندية، وبغداد، والهند من ذات الباب، هذه أمثلة وليست حصراً، فكل مكون حضاري، حاضر أمام ناظريك من المنظار أو المكبر الكندي، فالآخر يكبر مع كندا حتى وإن قبِل ذلك في جذوره مضطراً، وفق المفهوم الضيق، فهذه البوابات أو النوافذ الثلاث لتلك الشعوب تلتقي عند البوابة الكندية الكبرى، دون أن تختفي حضارات شعوب الأرض التي تعرض في متحف الأنتروبولوجيا التابع للجامعة الكولومبية البريطانية بدءاً من السكان الأصليين لكندا في قديم التاريخ الذين كانوا يتخذون من «KWAKWAKA'WAKW» طوطماً ينسجون من حوله طقوسهم الدينية التي توارثوها أباً عن جد، ومع ذلك لم ينحوا ذلك جانباً باسم الوثنية الجاهلية أو الصنمية المعاصرة، بل جزء ليس بنكرة من سلسلة تاريخ الإنسان في كندا. التعايش هو العنوان الرئيس الذي يلتف حول عنق كل إنسان اختار الحياة في هذا المكان الذي يساهم في إعماره وإن كان مهاجراً لأسباب الكل يعلمها ثم استوطن هذه الأرض المعطاء، فقد أصبح جزءاً من صناعة هذا النموذج المميز للتعايش بين الشعوب في الشعب الكندي. تجلس في المطعم الذي يلف بك حول مدينة «فانكوفر» بمقاطعة كولومبيا البريطانية من برج «أوت لوك» ليبادرك العامل ابتداءً قائلاً: عندما رأيتكم قمت بإبعاد كل «المحرمات» عن قائمة الطعام لأني أحسست بأنكم مسلمون، فإذا طلبتم وجبة معينة، وعلمت أن في مكوناتها شيئاً مما يحرمه دينكم سأنبهكم، وأستبدلها لكم بشيء آخر يناسب ذوقكم ورغبتكم. هذا الحوار المقتضب دار بيننا دون أن نفاتح هذا العامل عما نريد تناوله من الطعام في هذا المكان الذي يبدو وصف الخلّاب قليلاً عليه. وفي الطابق الحادي والأربعين، من شقتنا، التقيت في المصعد بزوجين مسنين، فبادرني قائلاً: إن شكل وجهك جميل جداً، علماً بأنني لم أرتب نفسي، كما هو المعتاد لأنني كنت على عجلة السفر، فرددت عليه بالسليقة بل الأجمل أن أراكما زوجين سعيدين كما ألاحظ على سيماكما إلى هذا العمر فهنيئاً لكما هذه الحياة العامرة. وفي أحد محال بيع الأغذية وعند دفع الحساب بادرتني امرأة كبيرة في السن ما أجمل ماكياج هذه الفتاة، وددت أن لديّ مثله، فغابت الفتاة لدقائق فسألتني أهي زوجتك، قلت لا هي ابنتي وهي على وشك التخرج بعد أيام، فاندهشت فقالت أهي وحيدتك قلت مع أختها، وهي مستعدة لوضع مكياجها لك إن أردت قالت «No am too old» قلت لها «Old is gold»، فضحكت عفوية وحياءً، فهي جزء من الصورة الكلية لكندا.