لا يوجد موضوع أفرز هراءً اقتصادياً من الحزبين الأميركيين الرئيسيين، «الديمقراطي» و«الجمهوري»، أكثر من التجارة، وقد استغل السياسيون الجهل الشعبوي والخوف من الأجانب ليحولوا أمراً ذا قيمة هائلة بالنسبة للولايات المتحدة إلى شر، وقد يظن المرء أن التجارة تجعلنا أكثر فقراً، لكن الواقع أن نطاق الفوائد من التجارة للأميركيين قد تذهل حتى أنصار التجارة الحرة أنفسهم، ووضع معهد بيترسون للاقتصاد الدولي هذه الفوائد في أرقام وتوصل إلى أن العائدات التي جنتها الولايات المتحدة من توسع التجارة نتيجة سياسات التحرير وتحسن تكنولوجيا النقل والمواصلات في الفترة بين عامي 1950 و2016 بلغت 2.1 تريليون دولار، ونتيجة لهذا زاد نصيب الفرد من الإنتاج المحلي الإجمالي 7014 دولاراً، وزاد نصيب الأسرة من الإنتاج المحلي الإجمالي 18131 دولاراً. ويلفت مارك بيري، من معهد أميركان إنتربرايز، انتباهنا إلى الدراسة قائلاً: «المكاسب الاقتصادية من التجارة الدولية كبيرة وتقدر بتريليونات الدولارات في الناتج الاقتصادي المتزايد. وحجم الاقتصاد الأميركي اليوم أكبر بنسبة 13% عما كان عليه بغير الفوائد الاقتصادية للتجارة، والأميركيون أكثر ثراءً ورخاءً وإنتاجية اليوم نتيجة التجارة وتحرير التجارة بواقع 18 ألف دولار للأسرة في صورة زيادة بالناتج، ولذا احترسوا عندما يزعم أنصار الحمائية وجود دور للتجارة في تدمير الاقتصاد الأميركي، ولتأخذوا في الاعتبار أن جزءاً كبيراً من الرخاء الأميركي والناتج الاقتصادي ومستوى المعيشة المرتفع.. كل ذلك هو نتيجة مباشرة للمكاسب التي تمتعنا بها من التجارة مع باقي العالم. وأي محاولات سياسية لتقليص وتقييد التجارة الحرة، ستجعل أميركا أفقر وليس أكثر ثراءً. والفجوة بين الواقع الاقتصادي والسياسة التجارية للرئيس ترامب واضحة. وتماماً كما عزلنا دبلوماسياً وبيئياً الانسحابُ من اتفاق باريس بشأن تغير المناخ، والتشكيك في جدوى «الناتو».. فإن الحماية التجارية تهدد بتقليص كعكتنا الاقتصادية بعرقلة اتفاقات التجارة ومنع اتفاقات جديدة من التطور، مثل اتفاقية الشراكة عبر الهادئ. وفي مواجهة العقلية المناهضة للتجارة الحرة، أطرح هنا اقتراحين عمليين، أولهما: يتعين على الشركات بذل مجهود أكبر في التحدث عن فوائد التجارة للعمال الأميركيين وحمَلة الأسهم والمستهلكين، وكجزء من تغطيتهم الصحفية الاقتصادية، ينبغي أن يسردوا فوائد الأسواق الخارجية ومخاطر خسارتها. فما عدد الوظائف الأميركية التي تعتمد على المبيعات الأجنبية؟ وكيف يؤثر «تعديل مقترح حول الضرائب عند الحدود» على الوظائف والأجور الأميركية؟ وإذا كان العاملون في القطاع الخاص قد تعلموا شيئاً من الخبرة الشعبوية فهو أنه يتعين عليهم التفاعل بشكل أكبر مع الجمهور ومع حملة أسهمهم سواء أكان الموضوع هو التجارة أو الهجرة أو تغير المناخ، فلا يمكنهم الاعتماد على الحزب كليةً أو على قوة العمل المتعلمة لخلق دعم شعبي للتجارة، وما لم يشرحوا المخاطر سيظل السياسيون يضرون بنظام التجارة الدولية. المقترح الثاني: يحتاج أنصار التجارة الحرة إلى التركيز بشكل أكبر على التأثيرات المعرقلة والمزعزعة لاستقرار التجارة الخارجية في مناطق وصناعات مختلفة. والإجراءات المستهلَكة الخاصة بـ«تعديل التجارة» تبدو كما لو أنها قادمة من قرن آخر، ويتعين إعادة تقييم نتائج ما يطلق عليه مراكز العمل «في محطة واحدة» التي توزع قوائم أماكن التدريب وخدمات أخرى، فهل تساعد هذه المراكز العمال في إيجاد وظائف جديدة أو سلوك طريق مهني آخر؟ وإلا فما العائق أمام الانتقال من مهنة إلى أخرى؟ وعموماً، يتعين النظر إلى مصير العاطلين عن العمل في سياق تقلص الانتقال الجغرافي والنشاط الاستثماري، وعلى المؤسسات الخاصة أن تسعى لتعزيز الديناميكية الاقتصادية، وبدلاً من وضع عراقيل تجارية، على الحكومة أن تنظر بشكل منهجي إلى الطرق التي يستطيع بها الأشخاص الذين هم في منتصف أو نهاية مشوارهم المهني أن ينتقلوا إلى مهن أخرى وصناعات أخرى وأحياناً إلى مناطق جغرافية أخرى. وباختصار فإن عرقلة التجارة اختيار اقتصادي غير مناسب، ووقف الموجة المعادية لها يتطلب مناقشة عامة نشطة عن فوائد التبادل الحر وجهوداً منسقة لتخفيف تأثيراته على بعض الفئات السكانية، وإذا استطعنا إعادة بناء الإجماع لصالح التجارة وخلق عدد أقل من «الخاسرين» جرَّاء التجارة، يمكننا المحافظة في الوقت نفسه على جزء محوري من الرخاء الأميركي وتهدئة الرياح التي تحرك سفن الشعبوية. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»