قبل خمس سنوات تقريباً، زار الإمارات بعض الأصدقاء والمعارف من القارة الأسترالية للمرور على أبنائهم الذين يعملون على أرض التسامح التام بلا آلام. ولقد انتهزت هذه الفرصة مع هؤلاء الضيوف إلى أرض الضيافة الفطرية وأخذتهم جميعاً في رحلة بحرية بخور دبي القلب النابض والشريان الحيوي الذي يمتد تاريخه إلى أكثر من خمسة آلاف عام، وهو الذي يبهر العالم بمجرد السماع عنه، فكيف بمن يلامس مياهه ويرى الأسماك خلاله من شدة نظافته التي يقوم عليها غواصون شباب بالتطوع لذلك بكل أريحية وجدارة. وقد دار حديث جانبي عما تعرضت له أستراليا في تلك الفترة من بعض الأحداث الإرهابية وأعمال عنف غير معتادة في هذه القارة، التي يقطنها قرابة عشرين مليون نسمة في منطقة شاسعة وهادئة من الجهة الأخرى للعالم. وبما أن الدين الإسلامي كان هو مدار الأحداث، المتهم الجاهز للإشارة عليه غالباً، فقد قدمت لهم شرحاً مختصراً للوئام الديني الذي يتمتع به مجتمع الإمارات منذ القدم، وكان موقعنا في الخور مناسباً لإعطاء هؤلاء القوم مثالاً صارخاً على صورة التسامح الذي يمكن رؤيته أثناء تجوالنا في قلب هذه اللؤلؤة الخليجية الرائعة. وأثناء حركة السفينة السياحية أمام معالم دبي الخلابة في هذا الخور العظيم من حيث المعنى والمبنى، أشرت لهم إلى معبد هندوسي ومسجد للسُّنة وآخر للشيعة على خط واحد ولا يفصل بينهم سوى بضعة محلات تجارية وشوارع داخلية في سوق راشد القديم والمتجدد، وينتهي ذات الخط بكنيسة «سانت ماري» لكي تكتمل لوحة التسامح الديني وتعزف سيمفونية التعددية بلا رتوش ولا افتعال. فذكرت أنه لم يحدث طوال تاريخ هذه الأماكن التي يعبد فيها رب واحد، باختلاف الطوائف والمذاهب، حادثة فيها رائحة التصادم العابر، فضلاً عن شيء يشبه ما تسمونه إرهاباً فيما حدث في أستراليا مؤخراً. فالخط الذي جمع بين هذه الاختلافات الدينية أو المذهبية هي مساحة التسامح الذي وفره مجتمع الإمارات لحسن التعايش بين مختلف الأجناس في هذه الإمارة الصاعدة وفي بقية إمارات الدولة الفتية. ففي الإمارات الصغيرة في الحجم، مقارنة بالقارة الأسترالية، والعظيمة في توفير سبل التعايش السلمي بين أكثر من 230 جنسية تعد أكبر من أعداد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة التي تقل عن المئتين، ففي الإمارات لدينا أمم متحدة لا تقارن بذلك وفي بقعة صغيرة بنت لنفسها نموذجاً لإيقونة التسامح بين كل تلك الجنسيات، دون أن تشعر بأنها غريبة عن أوطانها، مع تعدد ثقافاتها وأعراقها وطرق تفكيرها وطرق تعاملها مع الكل. فهل سمعتم يوماً عن حادثة واحدة بين كل هذه الجنسيات المتآلفة تنم عن نبرة عنصرية أو عرقية أو طائفية، تنفر الآخرين من الاقتراب منها خشية الفتنة؟! هذا الخور يشهد يومياً وشاهد على هذا التسامح بلا تكلّف ولا تمثيل لحالة خاصة تبهر عيون الزوار أو القادمين إليها من كل حدب وصوب. لقد مرت على هذا المكان شعوب وقبائل عبر قوافل التجارة الحرة قبل أن تكون هناك قوانين دولية حرة أو حمائية كما نسمع عنها اليوم، بل كان العابر من هنا يشعر ابتداء بالانتماء الفطري إلى هذا المكان الساحر في قِدَمه وحاضره أكثر ومستقبله أزهر. ولو خرجنا من هذا الشريان إلى الشرايين الأخرى للإمارات، فلن نجد إلا هذا النمط الراقي من التعامل مع الجميع بقيم الحضارة التي لا تعلو إلا بخلق التسامح بين جميع البشر. فالتسامح هنا جزء من أصالة هذا الشعب الكريم وأسس راسخة في تفكير وخطط القيادة الرشيدة لبناء مستقبل الدولة إلى العام 2117، أي لما بعد قرن من الآن. فعندما يكون خلق التسامح الجم جزءاً من إسلام هذا الشعب العزيز ورسالة الحكومة الرشيدة إلى العالم الأكبر، فإن الإرهاب يهرب من هذه الأرض التي لم تتهيأ يوماً لاستقبال هذا الفكر لها في الماضي ولا في الحاضر وبالطبع هو ملفوظ في المستقبل. فالسماحة جزء لا يتجزأ من نسيج هذا المجتمع الذي عرف جيداً كيفية هضم أفكار الآخرين رغم تعددها لبناء صرح للحضارة الإنسانية في روح دولة الاتحاد القائمة اليوم ليس شعبياً فقط، بل مؤسسياً على وزارة همها الوحيد غرس بذور التسامح في جذور قلوب كل داخل إلى هذه الأرض المثمرة حسناً وسلماً وتعايشاً قل نظيره في العالم. لماذا؟ لأننا لا نحمل، ابتداء، في قلوبنا ونفوسنا وعقولنا النيرة حقداً ولا حسداً ولا غيظاً ولا رائحة للانتقام من أحد في هذا الكون الفسيح، وهو ما يعطي الإمارات ميزة إضافية تجعلها مهيأة لبناء المزيد من المؤسسات الداعمة لهذا التوجه، فوزارة السعادة ركن ركين من ذلك، ومجلس القوى الناعمة هي الجامعة الكبرى لكل أنفاس التسامح بين البشر.