تفاقمت الأزمة التي تشهدها منطقة الخليج بعد قيام السعودية والإمارات والبحرين ومصر الاثنين الماضي بقطع العلاقات مع قطر، وأصدرت بيانات متزامنة أكدت خلالها أن القرارات صدرت بسبب الممارسات القطرية الداعمة للجماعات الإرهابية، والتي تهدد الأمن القومي العربي. واليوم تواجه منظومة مجلس التعاون الخليجي أزمة وجودية بعد أن ظلت هي المنظومة العربية الوحيدة التي احتفظت بتماسكها على رغم الاضطرابات المحيطة بسبب السياسات القطرية، فنشطت الوساطة الخليجية برعاية الكويت لمحاولة احتواء الأزمة وكثرت التحذيرات من «ارتماء قطر في الحضن الإيراني بعد سد المنافذ الخليجية أمامها» في ظل تشبث الخطاب القطري بالرفض للاتهامات، ولعب دور «ضحية الحصار»! وعلى استمالة المنظمات الحقوقية الدولية للحديث عن أوضاع إنسانية وانتهاكات لحقوق الإنسان، وتجنيد الأبواق الإعلامية للحديث عن نتائج الأزمة دون الخوض في المسببات الأساسية لأزمات المنطقة. بعد انطلاق ثورات ما عرف بـ«الربيع العربي» تزايدت حدة الاستقطاب في المواقف السياسية بين كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية ومملكة البحرين في جانب وإمارة قطر في الجانب الآخر، فقد راهنت قطر على تأسيس أنظمة «إخوانية» في دول الثورات، وعملت على الترويج لنموذجها إعلامياً ودعمها سياسياً دون أن تأبه باعتراضات الدول الخليجية، واستمرت في تحالفاتها مع شبكات وقوى الإسلام السياسي في الدول العربية والخليجية للتأثير على مسارات الأحداث. ولم تقبل قطر التخلي عن مشروع الاستثمار في دعم «الإخوان» وجماعات الإسلام السياسي، خاصة مع القوانين والتوافق العربي والدولي على مكافحة الإرهاب وجماعات الإسلام السياسي ومنها جماعة «الإخوان»، ولم تمتثل كذلك للضغوطات الخليجية لصياغة شروط وبنود جديدة من شأنها تحديد إطار العلاقات بين قطر وبقية جيرانها في دول الخليج. لطالما أظهرت الدول الخليجية حكمة سياسية في تعاطيها مع سياسات ومواقف دولة قطر، إلا أن قطر لم تستجب للمطالبات الخليجية فكانت الأزمة الدبلوماسية عام 2014 التي أدت إلى سحب كل من السعودية والإمارات ومملكة البحرين سفراءها من قطر. صحيح أن الأزمة سويت من خلال تقديم قطر تنازلات، ولكن لم يحدث أي تغيير جذري في سياسة الدوحة، واتسعت دوائر تأثير السياسة القطرية وتجاوزت منظومة مجلس التعاون للتأثير على مستقبل النظام الإقليمي العربي، وانعكس الاستقطاب الحاد على الساحة العربية، وظهرت الخلافات الخليجية- الخليجية، التي طالما تم احتواؤها تحت مظلة البيت الخليجي، على الساحة العربية، وتفجرت بسياسات استفرادية ظهرت جلية في نهج السياسة الخارجية القطرية الرامية إلى إعادة تشكيل النظام العربي، والتغريد السياسي خارج السرب الخليجي. تعلم الدوحة اليوم أنها لا تملك أدوات للمناورة طويلة المدى، ولا يمكنها تحمل العزلة الاقتصادية والسياسية مهما حاولت إيجاد صيغ تعاون مع إيران أو تركيا في الوقت الذي توفر فيه مظلة مجلس التعاون الخليجي الأمن والعمق التجاري لأعضائه، ولكن في المقابل، لا يمكنها التراجع بسرعة والامتثال للرغبة الإماراتية السعودية البحرينية المشتركة في التخلي عن أجنداتها السياسية بعد أن قضت عقوداً في الاستثمار والتسويق لنفسها بصفتها دولة مؤثرة في صناعة القرارات، ومشاركة فاعلة في المنطقة، وهو فعل متوقع يدخل في نطاق «المكابرة السياسية». إن السياسات الخارجية العقلانية تتطلب من متخذ القرار في قطر تغليب الحكمة السياسية والتفكير الاستراتيجي بعيداً عن التكتيكات الانتهازية قصيرة المدى والتخلي عن الجماعات الطفيلية والمرتزقة التي تدعمها منذ سنوات، فالإمارات والسعودية «تدفعان نحو تغيير سياسة قطر لا نظامها» حسب تصريح د. أنور قرقاش، وزير الدولة للشؤون الخارجية، فـ«هذا ليس مسعى لتغيير النظام. إنه مسعى لتغيير سياسة ولتغيير مقاربة. ما نقوله لقطر هو الآتي: أنت جارة وعليك أن تلتزمي بقواعد أمن واستقرار الخليج»، وهو ما سيحصل في قطر في نهاية المطاف.