شهد العام الماضي تنظيم أربعة انتخابات جوهرية في الغرب: اثنتان في بريطانيا وواحدة في الولايات المتحدة وواحدة في فرنسا. واثنتان من هذه الانتخابات كانتا بمثابة كارثة، وواحدة كانت تقريباً كذلك، في حين كانت الأخيرة مصدراً كبيراً للارتياح. بيد أن أياً منها لم تكن نتائجه متوقعة. وربما يعود السبب في ذلك إلى وجود استطلاعات رأي رديئة، ورجال سياسة باهتين. وهناك أيضاً سبب آخر يتمثل في الناخبين المتهاونين. واعتباراً من يوم الجمعة الماضي، بدا الأمر وكأن رئيسة وزراء بريطانيا «تيريزا ماي» بالكاد يمكنها أن تشكل حكومة ائتلافية مع حزب صغير في إيرلندا الشمالية، الأمر الذي ينبغي أن يبقيها في منصبها لفترة أطول. وبكل المعاني الأخرى، فقد بددت قدراً كبيراً من جهدها وصورتها السياسية في حملة رديئة ضد خصمها غير القوي أصلاً. فهل هذا يبدو مألوفاً؟ إن الفائز الحقيقي في الانتخابات التي شهدتها بريطانيا مؤخراً هو جيرمي كوربين، الذي قاد حزب العمال ليفوز بـ32 مقعداً زيادة على محصوله الانتخابي في عام 2015. ويعد كوربين رجلاً كان امتيازه الوحيد، في السياسة التقليدية، هو مجرد ربطة عنقه. لقد بذل الكثير من الجهد ليقحم حزب العمال في اليسار البغيض، كما أقحم الحزب الجمهوري الأميركي نفسه في اليمين القبيح. وقد لاحظت منذ فترة طويلة الوسائل التي فعل بها الجمهوريون ذلك. والمحافظون الذين فشلوا في تقويم مسار حزبهم، أتأسف لأن أقول إن معظمهم أصبحوا شركاء في هذا المشروع من الفساد الفكري والأخلاقي. وماذا عن كوربين؟ «لقد خلق زعيم حزب العمال ما اعتبره البعض ’مساحة آمنة‘ لأولئك الذين يتخذون مواقف خسيسة تجاه الشعب اليهودي»، وذلك وفقاً لتقرير أصدرته العام الماضي لجنة برلمانية في المملكة المتحدة. وكان من بين أقرب مستشاريه، سيوماس ميلن، وهو من أبرز المبررين لموقف الرئيس الروسي في المملكة المتحدة، وقد وصف كوربين نفسه حلف شمال الأطلسي «الناتو» بأنه يمثل «خطراً على السلام العالمي». ومرة أخرى، هل هذا يبدو مألوفاً، أيضاً؟ لقد كان هذا هو الحال حيث عارض اليسار المحترم كوربين من قبل لكل الأسباب المذكورة هنا. ولكن لم يمر وقت طويل قبل أن يبدأ هذا اليسار نفسه في احتضانه. لماذا؟ وكما وصف «راسكولنيكوف» ذلك في رواية «الجريمة والعقاب» للكاتب الروسي «دوستيوفسكي» حين قال: «إن الإنسان حين يعتاد على كل شيء، يا له من حقير!». ولم يكن كوربين ليحصل على ما حصل عليه ما لم يسيطر على حزبه من خلال التمسك ببعض الهوية الأيديولوجية الداخلية. ولم يكون ليصل إلى هذا الحد ما لم يكن الاحتقار للمنافسين، أمثال «ديفيد ميليباند»، يقابله ولع لدى أشخاص حمقى. إن عندنا الآن سياسة غربية ينحني فيها المركز تجاه الهامش، وليس العكس. ولم يكون ليحقق نجاح لو لم يكن الحزب المؤمن قد نسي، أو يتناسى الأسباب التي جعلت الماركسية البالية، أو القومية المغمورة التي كان يدافع عنها، قد فقدت مصداقيتها منذ زمن بعيد. فإذا اعترفنا بتصويت «البريكسيت» الذي أجري العام الماضي وبنجاح لوبن في الوصول إلى الجولة الثانية من الانتخابات الفرنسية، سنجد أن نطاق الجهل المدني أصبح أكثر وضوحاً في أوروبا بصفة عامة. ويقول «جيمس كيرشيك»، في كتابه الرائع «نهاية أوروبا»: «كما تتلاشى ذكريات الحرب العالمية الثانية والهولوكوست ومعسكرات السخرة السوفييتية، كذلك تتلاشى الكراهية للأيديولوجيات غير الليبرالية التي ولدت الأهوال السابقة في أوروبا». ويضيف: «لقد تجلى هذا في النجاح الانتخابي المتزايد للأحزاب الشعبوية الاستبدادية لأقصى اليسار واليمين، وأي منها ليس لديه شيء جديد ليقوله، ولكنه يدعي ارتداء عباءة التجديد الأيديولوجي والفضيلة الأخلاقية». لقد استغرق الأمر ثلاثة أجيال لفقدان دروس انعزالية ما قبل الحرب. واستغرق جيلين لتجاهل مزايا التكامل الأوروبي ما بعد الحرب. وإذا كان صعود كوربين أمراً من الممكن تجاوزه، فقد استغرق مجرد جيل واحد لنسيان خطايا اليسار المتطرف. وكل هذا من مسؤولية الناخبين. فمن السهل التوصل للأسباب التي جعلت الشعبويين والمتعصبين والراديكاليين والكارهين للأجانب والأغبياء هم الذين يفوزون في الانتخابات أو يحققون فيها نتائج قوية. ولكن الديمقراطية نظام لا يخضع فيه الناس إلا للمساءلة أمام أنفسهم. والأخبار ليست أيضاً كلها سيئة، حيث إن كوربين لم يصل بعد للحصول على أغلبية برلمانية بواقع 64 مقعداً. وأما المؤيدون لـ«البريكسيت» فهم يشعرون الآن بشيء من الندم. وربما يقدم الرئيس إيمانويل ماكرون الدليل على أنه، على الأقل في فرنسا، هناك جاذبية وطاقة وحماس في الوسط السياسي. إن الغرب لم يتجه إلى قعر الهواية بعد.. ولكننا نرقص الآن على حافتها الخطيرة. بريت ستيفنز محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»