تابعتُ نحو ثلاث ساعات استجواب «جيمس كومي»، مدير «مكتب التحقيقات الفيدرالي» (إف بي آي)، ودُهشتُ عندما شاهدتُ بعد ذلك تقرير مُراسِلة «بي بي سي» في واشنطن عن الاستجواب، وما كان ينبغي أن أدهش! فالمُراسِلة الغارقة في فيض المعلومات لم يتوفر لها الوقت، ولا المزاج ربما لمتابعة الاستجواب، فاستعانت بما تُسمى في الإعلام الغربي «قضمة»، أي «نُتفة» عن الموضوع. و«النُتَف» هزل الإعلام الأميركي والبريطاني في الهيمنة، بتحويل الأحداث إلى «نُتف» يبتلعها الجمهور بيُسرٍ ولا يختنق بها، إلاّ عندما «تقف في البلعوم»، كانتخاب «ترامب» رئيساً لأميركا، أو فشل زعيمة حزب المحافظين في الحصول على الأصوات التي تُسهِّلُ لبريطانيا مأزق الخروج من «الاتحاد الأوروبي». والهزل في الإعلام كالفساد في الاقتصاد، يقع عندما تفيض الخيرات وتشح معايير توزيعها، فليست «النتفة» كما يُفترضُ أن تكون «فحوى» موضوع تفيض بمعلوماته قنوات الإعلام الإلكتروني، وليس مصادفة أن تكون بطلة الهزل الإعلامي العالمي أميركا. والهزل الهازل حملات الإعلام الأميركي والبريطاني ضد الاتحاد السوفييتي والشيوعية، وكلاهما لم يعُد له وجود، والهزل الآخر في التعامل مع «ترامب» كمنقذ من الثورة الإعلامية التي انتهت بالكساد الإعلامي، فالثورة الإلكترونية التي وضعت العالم بين أيدي الجميع مَكّنَتْ أيّ شخص موهوب من أن ينافس أجهزة الإعلام الكبرى. لا أذكر كيف ظهر «جوناثان باي» على شاشة هاتفي «الآيفون» يختتم رسالته التلفزيونية أمام بناية البرلمان البريطاني صبيحة الإعلان عن نتائج الانتخابات. بدا المشهد كما لو أنّ من في الاستديو نسي أن يغلق البث، و«باي» يستحثهم أن يدعوه يذهب إلى منزله، فكل ما يريده الآن هو النوم، ويتلفظ بشتائم على النتائج الهزلية للانتخابات، التي أسفرت عن فوز حزب المحافظين الحاكم الذي خسر 13 من مقاعده في البرلمان المنصرف، وخسارة حزب العمال، الذي فاز بـ30 مقعداً. ويقفز «باي» ويرقص بعصبية، وهو يستعيد معارك خاضها «كوربين»، زعيم «حزب العمال»، ليس ضد المحافظين، بل ضد من يُسمَون «العمال الجدد»، جماعة رئيس الوزراء السابق توني بلير، الذي يهدده «كوربين» بالمحاكمة عن جريمة غزو العراق. واسم «باي» الحقيقي «توم ووكر»، وهو كوميدي بريطاني يساري حققّ شهرة عالمية بأسلوبه الهزلي، وتنافست على تشغيله فضائيات عالمية، وحظيت به الفضائية الروسية «آر تي». ويأخذ البريطانيون الهزل بأقصى الجدّ، وإلا كيف أمكن أن يعقدوا خلال نحو سنتين انتخابات برلمانية مرتين واستفتاءً عاماً، وفي كل مرة يخطئ السياسيون والصحفيون تماماً في توقع نتائجها. «الكلاب لا تأكل الكلاب»، استهلّ بهذه العبارة الصحافي البريطاني «نيك ديفز» كتابه الواسع الرواج «أخبار الأرض المسطحة»، وفيه فضح الإعلاميين بالأسماء، وقال: «أنا مضطر للاعتراف بأنني أشتغل في مهنة فاسدة». ووصف كيف انتهت «مهنة تقديم الحقيقة بالإنتاج الجماهيري للجهل». وكشف عن سماح صحف مرموقة للمخابرات الأميركية والبريطانية بتحرير أعمدتها، وصحف تدعو لتطبيق القانون، فيما هي تدفع رشاوى نقدية لتحريف الحقائق. وذكر أن صحيفة «الديلي تلغراف» حققت سبقاً عالمياً عندما نشرت تحقيق مراسلها في واشنطن، الذي أورد تفاصيل عملية إعدام الرئيس العراقي الراحل صدّام حسين قبل إعدامه بست ساعات، وما كان سينفضح، لولا أنه أرفقه بصورة ظهر زيفها عند تسريب مشاهد الإعدام الحقيقي! -------------------------- *مستشار في العلوم والتكنولوجيا