بدأ واحد من أعظم إنجازات السياسة الخارجية للولايات المتحدة بخطاب لمدة 11 دقيقة في مثل هذا الأسبوع قبل سبعين عاماً. ففي 5 يونيو 1947، دعا وزير الخارجية «جورج مارشال»، الذي كان في جامعة هارفارد للحصول على شهادة فخرية، الأميركيين لـ«مواجهة المسؤولية الكبيرة التي ألقاها التاريخ بوضوح على بلادهم». وأوضح أن الحرب العالمية الثانية قد تركت أوروبا في حالة من الدمار، وحطمت الاقتصادات وتسببت الشعوب التي تتضور جوعاً في حدوث اضطرابات (الأمر الذي من شأنه، من بين أشياء أخرى، أن يسمح بالهيمنة السوفيتية). لذا فقد كان الأمر متروكاً للولايات المتحدة أن تساعد أوروبا على التعافي. وأعلن مارشال في ذلك اليوم أن «سياستنا ليست موجهة ضد أي دولة أو عقيدة، بل ضد الجوع والفقر واليأس والفوضى». وستكون خطة مارشال، كما أصبحت معروفة، هي أكبر جهود للمساعدات الأجنبية في التاريخ، بقيمة إجمالية تبلغ 13 مليار دولار على مدى أربع سنوات. (كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، فإن هذا يعادل 900 مليار دولار الآن). وحتى يومنا هذا، يستحضر السياسيون وصناع القرار الخطة باعتبارها نموذجاً وفكرة مستوحاة. وقد جاءت لتمثل القوة الأميركية في أفضل صورها - سخية وشجاعة وحكيمة. ويعد مارشال نفسه الأب المؤسس للقيادة العالمية الأميركية، والتجسيد الصارم لزمن أفضل، زمن «اعتدنا فيه على الفوز» - على حد تعبير الرئيس الأميركي دونالد ترامب - وعندما أنشأنا تحالفات عبر الأطلسي، وأرسلنا حصيلة الضرائب من الدولارات لمساعدة البلدان المدمرة، وقبلنا بألا نعتمد على سياسات أميركا أولاً للحفاظ على سلامتنا. وباعتباره جنرالاً، ساعد مارشال بلاده للفوز في الحرب العالمية الثانية، وكرجل دولة، ساعدها على الفوز بالسلام. بيد أن الذاكرة الجماعية تميل إلى إسقاط جزء حاسم من القصة. ونتيجة لذلك، فهي تحجب بعض الدروس الرئيسية المستفادة من خطة مارشال. قبل أن يطلق ما سيصبح واحداً من أهم نجاحاته ونجاحات بلاده، خضع مارشال لما يعتبر أعظم فشل له. فقبل خمسة أشهر من الخطاب الذي ألقاه في هارفارد، عاد من نزاع دام 13 شهراً كوسيط للسلام في الحرب الأهلية الصينية مع بناء صين ديمقراطية حليفة للولايات المتحدة من الممكن أن تمنع السيطرة الشيوعية. وقد تم تكليفه بهذه المهمة بعد يوم من التخلي عن منصبه كرئيس لأركان الجيش. ورأى الرئيس «هاري ترومان» أنه إذا كان هناك شخص من الممكن أن ينجح في هذه المهمة، فإن هذا الشخص هو مارشال، الذي كان يعد «أفضل رجل عسكري أنجبته هذه الدولة، أو أي دولة أخرى». ولكن على الرغم من مرور أربعة أشهر من تحقيق تقدم رائع، فشل مارشال في نهاية المطاف في منع الانحدار في حرب كاملة وتجنب انهيار الحكومة القومية للرئيس «شيانج كاي شيك» في مواجهة الثورة الشيوعية بزعامة «ماو تسي تونج». بالنسبة للبعض، فإن هذا يمثل علامة سوداء على التاريخ المهني البطولي لمارشال. فقد كانوا ينددون به باعتباره الرجل المسؤول عن أول هزيمة في الحرب الباردة، وأنه الشخص الذي «فقد» الصين. بيد أن مارشال نفسه لم ير الأمر على هذا النحو. ومن دون فشل مهمته في الصين، فإن نجاح خطة مارشال ما كان ليحدث على الإطلاق. وعندما عاد مارشال من الصين وشغل منصب وزير الخارجية، كانت محنة أوروبا تمثل تحديات مشابهة لتلك التي واجهها خلال مهمته التي دامت 13 شهراً في الصين. فقد سجل هناك أهمية مكافحة «الجوع والفقر واليأس والفوضى»، حيث اعترف أن أهم أولوياته تتمثل في ضرورة منع هذا النوع من الانهيار السياسي والمجتمعي الذي ولد الثورة. بيد أن مارشال تعلم أيضاً في الصين أن الولايات المتحدة لا يمكنها فرض حلول من الخارج. ولا يمكنها أن تريد شيئاً أكثر مما يريد شركاؤها. وفي هارفارد، أكد أن «المبادرة يجب أن تأتي من الأوروبيين». يجب أن تكون أميركا مستعدة لتقديم المساعدة على نطاق سابق (ولاحق) لا يمكن تصوره، ولكن فقط إذا اتخذ المتلقون خطوات معينة، بدءاً من تبني أشكال جديدة للتعاون إلى رفض «المتطرفين المسلحين من أي طبيعة سياسية». كان معظم خطاب هارفارد يتكون من دعوة للأوروبيين لتقديم مقترحات يمكن أن تدعمها الولايات المتحدة. ولاحظ المراقبون المتبصرون في ذلك الوقت كيف أن تصريحات مارشال بشأن أوروبا جاءت على غرار ما كان يقوله عن الصين. والفارق هذه المرة أنه، على عكس الصين، وجد شركاء قادرين على القيام بما في وسعهم لجعل المساعدات تنجح. فالاستراتيجية تتطلب تحديد الأولويات، ومحاولة الفوز في كل معركة سيكون وصفة مؤكدة لخسارة حرب أوسع. فإذا ما وزعنا الموارد في كل مكان، فإننا لن ننجح في أي مكان. وقد كان هذا صحيحاً بصفة خاصة في الديمقراطية. بعد عقد من الكساد وأربع سنوات من الحرب العالمية، كان الأميركيون أكثر اهتماماً بمشاكلهم أكثر من مشاكل العالم. دانيال كيرتز *محلل سياسي أميركي *ينشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون نيوز سيرفس»