كان للانتصار الكاسح الذي حققه إيمانويل ماكرون في الانتخابات البرلمانية الفرنسية الأخيرة، أن يبدّد المخاوف من أن تنزلق أوروبا باتجاه تحقيق مطامح القوميين الشعبويين، مثلما حدث في الولايات المتحدة خلال انتخابات نوفمبر الماضي. وخلال هذا الشهر، سجلت الأحزاب المتطرفة في أوروبا، وخاصة في هولندا وإيطاليا وفنلندا والنمسا وفرنسا، نتائج هزيلة. فمثلاً، لم تتمكن زعيمة حزب «الجبهة الوطنية» في فرنسا، مارين لوبين، من الفوز إلا بستة مقاعد في البرلمان الجديد، أي أقل من عتَبة الخمسة عشر مقعداً التي تؤهلها للعب دور برلماني أكبر في الجمعية الوطنية الفرنسية. ومع تواتر تنبؤات تشير إلى أن أنجيلا ميركل سوف تحقق فوزها المنتظر في حملة إعادة انتخابها في سبتمبر المقبل، يمكن القول إن فرنسا وألمانيا سوف تستعيدان زمام المبادرة وقيادة السياسة الأوروبية. وهما اللتان ستتكفلان برسم «الخريطة الجديدة» لأوروبا التي ستعمل على دعم وتعزيز الأسس التي قامت عليها المؤسسات السياسية ذات القواعد الصلبة والتي عارضها الناخبون المؤيدون للانسحاب من الاتحاد الأوروبي «البريكسيت» في المملكة المتحدة. وسوف تكون هاتان الدولتان في وضع يحتكم إلى القوة السياسية الكافية للتصدي للوعود التي أطلقتها رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، في عطلة نهاية الأسبوع الماضي حين وعدت مواطنيها بالتفاوض حول نتائج معقولة ومقبولة في محادثات الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وهو الإعلان الذي لا يرمي إلا إلى التسويق لنفسها داخلياً. وبات في وسع الاتحاد الأوروبي، الذي عزّز من ثقته بنفسه مؤخراً، أن يشرع مجدداً في تدعيم سلطاته المؤسساتية، وأن يبادر إلى إصلاح وتقويم الممارسات العقيمة التي تشكل ما يُعرف باسم «بيروقراطية بروكسل»، بما في ذلك نقل مقر برلمان الاتحاد الأوروبي الذي يتألف من 751 عضواً مرة في كل شهر من بروكسل إلى مدينة ستراسبورغ الفرنسية نزولاً عند رغبة الفرنسيين. أما بالنسبة لمشكلة الأمن الوطني التي تحتل قمة الأولويات، فإن أوروبا لا زالت تعتمد على مساعدة الأميركيين في هذا المجال، كما يحتاجها البريطانيون ولكن بدرجة أقل. واليوم، دخل الأنجلو-سكسونيون (القبائل الجرمانية الأصل التي تستوطن بريطانيا العظمى) الذين كانت لهم مساهماتهم المهمة في تأسيس حلف شمال الأطلسي عام 1949، مرحلة الانقسام في الرأي حول التراجع والانسحاب منه. وكثيراً ما كان الرئيس دونالد ترامب يقلل من أهمية الخطر الذي يتعرض له هذا التحالف من روسيا، لكنه كان في الوقت ذاته يطالب الأوروبيين بالإنفاق أكثر من أجل الدفاع عن أنفسهم. والآن، وبعد أن أدلى البريطانيون بأصواتهم يوم 8 يونيو، أصبحت رئيسة الوزراء تيريزا ماي في مواجهة التحدي الذي أصبح يشكله زعيم حزب العمال جيريمي كوربين على خلفية الانتصار الذي حققه في ذلك الاقتراع. وهو الوضع الذي لم يكن يتوقع أحد من المعلقين والمحللين بلوغه قبل عام. وبعد أن بادر كوربين (بذكاء مفرط) إلى تعديل وتشذيب المواقف المتطرفة التي عُرفت عنه، فيما يتعلق بالوضع الدفاعي والأمن الوطني لبريطانيا، فقد أطلق على التوازي مع هذا التغيير غير المنتظر في توجهاته، انتقادات متزايدة للرئيس ترامب. وفي خطاب مهم ألقاه في المعهد الملكي للدراسات الدولية «شاثام هاوس»، يوم 12 مايو 2017، تحدث كوربين عن التردّي المتواصل في الوضع السياسي العالمي، وقال: «يبدو أن الرئيس الجديد للولايات المتحدة شديد الإصرار على إضافة عنصر جديد إلى الأخطار التي تهدد العالم عندما بادر إلى تصعيد النزاع مع كوريا الشمالية، وأيضاً بعد توجيهه للضربة الصاروخية ضد سوريا، ومعارضته الشديدة للصفقة النووية التي وقعها الرئيس أوباما مع إيران، ودعمه لسباق جديد للتسلح النووي». ولعل من المفارقات الغريبة أن تتطابق لهجتا كوربين وترامب من حيث ترددهما في إدانة الممارسات الروسية في أوكرانيا وسعيهما للتوصل إلى حل سياسي للأزمة الأوكرانية عن طريق المفاوضات. ويكمن التحدي الذي تواجهه أوروبا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة حالياً، في أنه ما لم تشكل هذه الدول جبهة أكثر تماسكاً لمواجهة روسيا وبعض القوى الأخرى، وخاصة الصين، فسوف تتعرض للمزيد من أخطار «التشرذم والانقسام» التي سعت كل من روسيا والصين إلى فرضها عليها بطرق مختلفة من أجل تقويض الأسس التي تقوم عليها المؤسسات السياسية الغربية ككل، وهي المؤسسات التي لعبت دوراً محورياً في تشكيل وقيادة النظام العالمي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945. ومن الضروري أن يكون المحور الأساسي الذي يجب أن تركز عليه استراتيجية الغرب هو ضمان توصل بريطانيا وفرنسا وألمانيا إلى طريقة مناسبة لإتمام إجراءات الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي بأقل التكاليف والتداعيات السياسية السلبية الممكنة، وعلى أساس التفاهم على تدعيم التعاون فيما بينها في القضايا الدفاعية والأمنية. وبالنظر إلى حجم المخاطر التي تتهدد أوروبا، بما فيها بريطانيا، فمن الضروري أن يحظى هذا الهدف بالأولوية المطلقة. ويتركز العنصر الأساسي حالياً في عدم التوافق على طريقة التعامل مع القضايا الشائكة المتعلقة بالهجرة والإرهاب بين دول أوروبا ذاتها، وبينها وبين دول الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب شرق آسيا. وفي الوقت الحالي تتعرض الدول الثلاث، بريطانيا وفرنسا وألمانيا، لمزيد من الأعمال الإرهابية، مما يفاقم مشكلة «رهاب الأجانب». وعلى أحزاب تيار الوسط الأوروبية أن تتضامن أكثر من أجل تبني وتنفيذ سياسات أكثر فعالية لمواجهة كل هذه التهديدات والمخاطر.