تشكّل فلسفة «أميركا أولاً» التي يتبناها الرئيس الأميركي دونالد ترامب قطيعةً مع الأفكار التي تؤمن بالليبرالية وأهمية التعاون بين البلدان، والتي طبعت ملامح السياسة الخارجية الأميركية منذ الحرب العالية الثانية. ويُعتبر توماس رايت، الباحثُ بمؤسسة بروكينجز في واشنطن، من أوائل المثقفين الأميركيين الذين اهتموا بتحليل آراء ترامب في السياسة الخارجية. وفي كتابه الجديد «كل الوسائل دون الحرب»، يبسط رايت حججاً قوية ومقنعة تذهب إلى أن استراتيجية «أميركا أولاً» ستُلحق ضرراً بالعالم وبالولايات المتحدة نفسها. ويرجّح بعض النقاد أن الكتاب كان يراد له في الأصل أن يكون بمثابة دليل معين لإدارة هيلاري كلينتون، حيث كانت جل استطلاعات الرأي تتوقع فوز المرشحة الديمقراطية في الانتخابات الرئاسية، كما يعترف رايت بأن التوصيات التي يوصي بها في كتابه من أجل التزامٍ أميركي جديد بالنظام الدولي الليبرالي من غير المرجح أن تقابَل بالتأييد في البيت الأبيض حالياً. غير أن كتابه يمثّل، مع ذلك، تحليلاً مهماً ورصيناً لتوازن القوة العالمي الحالي، وبالتالي للتحديات التي ستواجه أي ساكن للبيت الأبيض. رايت يقتبس عنوان الكتاب من تعهد الرئيس الأميركي فرانكلين روزفيلت، قبل دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية، باستخدام «كل الوسائل دون الحرب» من أجل دحر الفاشية، ويذهب إلى أنه على الولايات المتحدة أن تجد طريقاً صعباً من أجل التصدي لمنافسين مثل الصين وروسيا، مع الحرص في الوقت نفسه على عدم المبالغة في الرد على محاولاتهم التأثير على السياسات في مناطقهم من العالم. ويتبنى مبدأ «التنافس المسؤول»، الذي يدرك ويعترف بأن الدول تتنافس، لكنه يرى أنه إذا كانت المنافسة مدروسة وعقلانية، فإن الأطراف تستطيع تجنب النزاعات المسلحة. وفي هذا السياق، يعترف المؤلف بأن الأعمال التي قامت بها روسيا والصين خلال السنوات الأخيرة تثير العديد من الإشكاليات، لكنه يرى أن من شأن سياسةِ تنافسٍ مسؤول تجنب التصعيد. ومع تراجع التعاون السياسي والاقتصادي في العالم وصعود القومية، يشدّد رايت على أنه من المهم أكثر من أي وقت مضى أن تتبنى الولايات المتحدة سياسة خارجية حازمة وتحول دون تفشي النزاعات العالمية، لكن الصعوبة تكمن في تحديد «التنافس المسؤول»، الذي يمكن أن تؤوله كل قوة عالمية بشكل مختلف. ولعل أحد الأفكار الأكثر قوة وإقناعاً في كتاب «كل الوسائل دون الحرب» هي قوله إن «النظام العالمي» في الحقيقة عبارة عن سلسلة من «النظم الإقليمية» المدعومة من قبل القوة الأميركية، حيث يقول رايت في هذا الصدد: «إن الجزء الأهم في النظام الدولي ليس الأمم المتحدة أو المؤسسات المالية الدولية.. وإنما النظم الإقليمية.. وإذا تداعت تلك النظم الإقليمية وانهارت، فكذلك سيفعل النظام العالمي». لكن الصعوبة تكمن في أن النظم الإقليمية في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط توجد بالفعل تحت ضغط هائل. ومثلما يُظهر رايت، فإن كل الرؤساء الأميركيين المتعاقبين كانوا يتمنون أن تقبل روسيا والصين نظاماً عالمياً تتزعمه الولايات المتحدة، وأن تخلصا في النهاية إلى أن ذلك يصب في مصلحتهما الاقتصادية. لا بل إنه كانت ثمة آمال لدى أميركا في أن «يلتقي» الشرق الأوسط مع النموذج الغربي، وهي آمال أنعشها لفترة قصيرة «الربيع العربي» قبل أن تتلاشى وتختفي مجدداً. بيد أن الأمور نحت منحى مختلفاً في النهاية. ومثلما يقول رايت، فإن صعود الصين وانبعاث روسيا شجعا كِلا البلدين على تحدي الهيمنة الاستراتيجية الأميركية في منطقتيهما. وباعتبارهما نظامين سلطويين، فإنهما كانا قلقين أيضاً من أن يقوض النظامُ الليبرالي قبضتهما على السلطة. أما في الشرق الأوسط، فإن النظام الإقليمي لم يكن ليبرالياً في يوم من الأيام. ويرى بعض المراقبين أنه آخذ في التفكك بسرعة، وهو ما يمثل في الوقت نفسه سبباً ونتيجةً لتراجع تأثير القوة الإقليمية الأميركية. وأمام كل هذه الفوضى العالمية، فإن أحد ردود الفعل الأميركية الممكنة هو الانعزال والانكفاء على الذات والتركيز على الشؤون الداخلية، وهذا بالفعل ما يبدو أنه رد الفعل الحالي من جانب ترامب، والذي شكّك مراراً وتكراراً في الفكرة التي مؤداها أنه من مصلحة أميركا الحفاظ على نظم تحالفها حول العالم، واحتج خلال حملته الانتخابية غير ما مرة على ما سماه «الركوب المجاني» لبعض البلدان التي قال إنها تستغل الولايات المتحدة وتستفيد من مظلتها الأمنية مجاناً، في حين تتاجر بشكل مجحف مع من يوفر لها الحماية! كتاب رايت يشكّل دحضاً مقنعاً للفكرة القائلة بأن أميركا قد تكون أفضل حالاً إنْ هي تخلت عن فكرة نظام عالمي ليبرالي وأذعنت لظهور مناطق نفوذ إقليمية لروسيا والصين، إذ يقول: «إن النظام الدولي الليبرالي كان ناجحاً إلى حد كبير في صيانة المصالح الأميركية مع تعزيز السلام والازدهار في معظم بقية العالم». وبالمقابل، فإن من شأن عالم مقسّم إلى مناطق نفوذ إقليمية أن يكون أقل استقراراً بكثير وأن يشجّع الصين وروسيا وآخرين على اختبار عزم الولايات المتحدة وتصميمها. كما أن التجارة في مثل هذا العالم ستتقلص والديمقراطية ستتراجع، و«سرعان ما ستجد الولايات المتحدة نفسها عالقة في النزاعات، وفي موقف أضعف بكثير مما تتمتع به الآن». أما إذا كانت الولايات المتحدة تريد الحفاظ على موقعها في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، فإنها في حاجة لتحالفات، تحالفات تُعتبر «مضاعِفاً للقوة، وقوةَ استقرارٍ في المناطق، ومصدرَ شرعية». أما في ما يتعلق بإنفاق بعض الحلفاء في «الناتو» وآسيا مالاً أقل على دفاعهم مما تريده واشنطن، فلا شك أن بعض «الركوب المجاني» يُعتبر جزءاً من الثمن الذي يتعين على الولايات المتحدة أن تدفعه مقابل فوائد ومزايا أن تكون قوة عظمى. وإذا كان ترامب يرفض هذا النوع من التحليلات بشدة، فإن العديد من كبار مستشاريه يبدو أنهم يعترفون بقيمة التحالفات عموماً ويقدّرونها. ولهذا، فإن التنافس بين غريزة الرئيس ونصائح مستشاريه قد يكون الميزة الرئيسية للسياسة الخارجية الأميركية في العهد الحالي. بيد أن كتاب رايت يهمل سؤالاً مزعجاً ويتركه من دون إجابة عموماً. ذلك أنه حتى إذا كان المؤلف محقاً في أنه من مصلحة أميركا بكل وضوح أن تحافظ على النظام العالمي الليبرالي، فإنه يظل ثمة سؤال حول ما إن كانت الولايات المتحدة تستطيع تسخير الموارد الاقتصادية والاستراتيجية من أجل الحفاظ على هيمنتها العالمية. كما أنه إذا كان رايت يؤكد في ختام كتابه أن «الولايات المتحدة ليست في حالة تراجع»، فإنه لا يخصص حيزاً كافياً لتفنيد النظرية التي تقول بأفول نجم الولايات المتحدة. محمد وقيف الكتاب: «كل الوسائل دون الحرب.. السباق على القرن الحادي والعشرين ومستقبل القوة الأميركية» المؤلف: توماس جاي. رايت الناشر: يل يونيفرسِتي برِس تاريخ النشر: 2017