لعل إحدى الشكاوى المعتادة من علم السياسة الأكاديمي، التي يرددها البعض، هي أن علماءه يستجيبون على نحو شديد البطء للظروف المتغيرة في العالم. فقد استغرق الأمر عامين بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية قبل أن تظهر الموجة الأولى الجادة من أبحاث الإرهاب، في مجلات ودوريات العلوم السياسية. كما مرت عشر سنوات كاملة أيضاً على أزمة الرهن العقاري، ومع ذلك لم يتم حتى الآن، إجراء ما يكفي من أبحاث في مجال الاقتصاد السياسي الدولي حول هذا الموضوع. ومع أن ظاهرة القومية الشعبوية، ليست من الظواهر ذات القوام المادي المتماسك، مثل الهجمات الإرهابية أو الأزمات المالية، إلا أننا رأينا خلال هذا الشهر ثلاثة مؤتمرات تعقد في ثلاث مدن في بحر عشرة أيام، عن هذه الظاهرة تحديداً. وهذه المؤتمرات لم تكن متطابقة: فبعضها ركز أكثر على الاستقطاب، وبعضها الآخر على السياسة الخارجية، ولكن الشيء اللافت للنظر في هذه المؤتمرات جميعاً، هو التنوع الكبير في تخصصات العلماء الذين حضروها. والسؤال: ما الذي تعلمته أنا من هذه المؤتمرات؟ لعل أهم ما تعلمته هو أنه ما زال أمامنا الكثير من الأشياء التي ينبغي لنا تعلمها. ولكن كان هناك أيضاً القليل من الاستخلاصات الأخرى، التي أمكنني الخروج بها من هذه المؤتمرات منها: إن تأثير العولمة على الشعبوية قد بولغ فيه، وأن هذه المبالغة ستستمر على ما يبدو. فمعظم الأبحاث أشارت، بشكل عام، إلى أن تأثيرات العولمة على دعم الناخبين للأحزاب الشعبوية، لم يكن كبيراً بالدرجة التي تنبأ بها العديد من الخبراء. ولمزيد من التوضيح حول هذه النقطة، أقول إن الاحتمال الأكثر ترجيحاً هو أن يواصل أولئك الذين عانوا من صدمات سلبية قصيرة الأمد، في العالم المتقدم، جراء الاختلال الناتج عن المنافسة الاستيرادية، تأييد الأحزاب الشعبوية. ولكن تأثير هذه الصدمات يعتبر في نظري، متواضعاً، لأنه كانت هناك أيضاً دوافع أخرى أكثر قوة وراء ظاهرة الشعبوية. وهذه الفرضية ستظل تواصل الانتشار، في الواقع، لأن المثقفين العموميين، الذين يحضرون مثل هذه المؤتمرات، يشعرون بتشكك كبير حيال بيانات استطلاعات الرأي العام، ويعتقدون في قرارة أنفسهم أن دور العولمة الاقتصادية، يفترض أن يكون أكثر أهمية. ويمكن القول بناء على ذلك إن الاحتمال الأرجح هو أن أية أبحاث تجرى حول هذا الموضوع ستركز على العولمة أكثر من تركيزها على القضايا الأخرى. ومع أن هناك الكثير من الأسباب الكامنة وراء الركود الاقتصادي الذي تعاني منه الطبقة الوسطى، إلا أن الصدمة الصينية وفرت حدثاً خارجياً حقيقياً مزوداً بآلية ومؤشرات واضحة، مما سهّل على علماء السياسة، إلى حد كبير، استخدام هذا الحدث للتعرف إلى الكيفية التي يستجيب بها المواطنون للعوامل الاقتصادية السلبية، ومقارنة ذلك بالأسباب التي يصعب عزلها عن بعضها مثل الأتمتة. ونظراً لأن هذه الأوراق الرصينة قد كتبت ووزعت بالفعل، فإن الأمر المرجح هو أن تركز وسائل الإعلام في تغطيتها على الصين أو على العولمة، أكثر من تركيزها على الأسباب الاقتصادية الأخرى. ثم إن المظالم الاقتصادية، ومظاهر السخط الثقافي، قضيتان لا يمكن التعرف إليهما بشكل كامل. فقد كان هناك ميل للتفكير في المظالم الاقتصادية، والقلق الثقافي باعتبارهما قضيتين مختلفتين. ولكن هناك ورقة كانت من أفضل الأوراق التي اطلعت عليها في هذه المؤتمرات، أشارت إلى أن الظروف الاقتصادية السلبية يمكن أن تؤدي إلى تحول الناخبين نحو تبني مواقف أكثر استبداداً، وهو ما يقود حتماً إلى مفاقمة القلق الثقافي. ولمزيد من التوضيح أقول، إن معظم الأبحاث التي رأيتها بشأن هاتين القضيتين تميل إلى إضفاء أهمية أكبر على مظاهر القلق الثقافي، وإن هذين العاملين أكثر تداخلاً مما قدرت منذ شهر على وجه التقريب. ويبقى أن الولايات المتحدة دولة استثنائية حقاً. فعدم المساواة فيها لا يؤدي دائماً إلى استقطاب سياسي من النوع الذي يحدث في الأغلب الأعم من الحالات في الأنظمة الانتخابية الأغلبوية، أي التي يكون الفائز فيها هو الحاصل على أغلبية الأصوات. وهذا التأثير كان غير متماثل أيضاً، فالجمهوريون تحركوا نحو اليمين أكثر من تحرك الديمقراطيين نحو اليسار. والسبب في ذلك بسيط وهو أن احتمال تصويت الفقراء في أميركا، أقل كثيراً من احتمال قيامهم بذلك في دول أخرى. فالدول الأخرى، التي تميل فيها الفئات الأكثر فقراً للخروج بأعداد كبيرة للإدلاء بأصواتها في الانتخابات، كانت هي تحديداً الدول التي حققت فيها الأحزاب الشعوبية تقدماً سياسياً واضحاً في مجال الاستجابة لمظاهر عدم المساواة الآخذة في التفاقم. والحاصل أن الحوكمة العالمية ستواجه أوقاتاً صعبة في المستقبل. فالشعبويون يميلون عادة لكراهية النخب، وكراهية مصادر السلطة الموازية، والتعديات على السيادة، وهي أمور تؤثر الحوكمة العالمية في إنتاجها مما يجعلها بالتالي هدفاً سهلاً للشعبويين في مختلف أنحاء المعمورة. وعلاوة على ذلك، من المعروف أيضاً أن الولايات كانت هي ركيزة النظام الليبرالي الدولي، الذي يعتبر هو الأساس المتين لمعظم بنيات الحوكمة العالمية. ولكن، ونظراً للطريقة التي يدار بها الفرع التنفيذي في الولايات المتحدة في الوقت الراهن، وطبيعة القائمين على إدارته، فإن ذلك يعني أن الضامن الرئيس لقواعد اللعبة الدولية، قد غدا أقل يقيناً بكثير، وأن الدول الأخرى سترسم خططها بناء على ذلك. دانيال دريزنر أستاذ السياسة الدولية في كلية فليتشر للقانون والدبلوماسية التابعة لجامعة تافتس- ماساتشوستس ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»