في الرابع عشر من شهر يونيو الجاري، شبّ حريقٌ في برج غرينفل، وهو عبارة عن بناية سكنية طولها 68 متراً تقع في شمال منطقة كينسينجتون وسط لندن، وذلك خلال الساعات الأولى من الصباح عندما كان معظم السكان نياماً. وقد قُتل ما يزيد على 70 شخصاً، في ما اعتُبر أسوء حريق تشهده لندن منذ الحرب العالمية الثانية. ويُعتقد أن الحريق شب أول الأمر في شقة في الطابق الرابع من البرج، بسبب عطل في ثلاجة أدى إلى انفجارها واشتعال النار. ولما كان موقع الثلاجة على مقربة من نافذة الشقة، فإن النار امتدت إلى الجدران الخارجية للبناية. وكانت هذه الأخيرة قد خضعت قبل فترة قصيرة لعملية تجديد شملت كسو واجهتها الخارجية بكساء كان الهدف منه زيادة فعالية البرج الحرارية وتجميل منظره الذي كان قبيحاً في واحدة من أغنى مناطق لندن. غير أنه تبين أن الكساء كان مصنوعاً من مواد جد قابلة للاشتعال، حيث انتشرت النيران بسرعة وامتدت من الطابق الرابع إلى بقية الطوابق. والواقع أن سكان البناية كانوا قد حذّروا السلطات المحلية المختلفة، ومنذ سنوات، من أن خطر الحرائق قائم بشكل حقيقي في البرج، لاسيما أن البرج لم يكن مزوداً بأجهزة إنذار، ولا رشاشات لإطفاء الحريق، ولا منافذ للهرب. كما أن الكثير من طفايات الحريق الموجودة في البناية كانت قديمة وبالية وقد تجاوزت فترة صلاحيتها بسنوات. غير أن كل هذه التحذيرات تم تجاهلها. واليوم تواجه الحكومة البريطانية أزمة وطنية؛ نظراً لوجود عدة أبراج أخرى عبر البلاد بُنيت باستخدام الكساء نفسه، ومن دون مراعاة لكل معايير وإجراءات السلامة القانونية. ويشار هنا إلى أن هذه الممارسة المتمثلة في تغطية المباني بأغطية مصنوعة من مواد شبيهة بتلك المستخدمة في برج «غرينفل»، حُظرت في الولايات المتحدة وفي بلدان أوروبية كثيرة منذ وقت طويل. ولا شك في أن التحقيق الذي فُتح من أجل الكشف عن ظروف وملابسات هذه المأساة التي شهدتها لندن، سيكشف في نهايته عن جشع وانعدام كفاءة، وربما يتلو ذلك توجيه اتهامات جنائية إلى من يشير التحقيق إلى إهمالهم وتقصيرهم. وفي غضون ذلك، يمثل حريق برج غرينفل ضربةً أخرى لحكومة رئيسة الوزراء المحافظة تيريزا ماي التي أُضعفت كثيراً. فغداة الحريق، تعرضت ماي لانتقادات شديدة بسبب تخلفها عن الالتقاء بضحايا الحريق والتعاطف معهم. وبالمقابل، شوهد زعيم حزب العمال، «جيريمي كوربن» وهو يعانقهم ويواسيهم. وللتذكير، فإن انتقادات مماثلة كانت وُجهت لماي خلال الانتخابات الأخيرة، حيث أُخذ عليها افتقارها للدفء وللذكاء السياسي المطلوبين في الزعماء. والحال أنه خلال الأشهر القليلة المقبلة سيتعين على ماي أن تبين عن قدر أكبر بكثير من المهارات الأخرى، في وقت تتواصل فيه المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي حول شروط انسحاب بريطانيا من الاتحاد (البريكسيت). ومن أجل الحفاظ على أغلبيتها في «مجلس العموم»، كانت ماي قد اضطرت للموافقة على اتفاق مع «الحزب الوحدوي الديمقراطي»، وهو حزب سياسي إيرلندي شمالي يرغب في علاقات وثيقة مع أوروبا والإبقاء على الحدود مفتوحة مع جمهورية إيرلندا. ولعل الضوء المشرق الوحيد بالنسبة لماي هو أن منصبها يبدو في مأمن، في الوقت الراهن على الأقل، وذلك لأنه لا يوجد أي منافس لها على زعامة حزب المحافظين مستعد لتحمل مسؤولياتها في هذا الوقت. ومن جهة أخرى، سيؤدي حريق برج غرينفل، ومن دون شك، إلى احتدام النقاش المتواصل في المملكة المتحدة حول اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، وخاصة في لندن التي تُعد إحدى أغنى وأغلى مدن العالم. ذلك أن تكاليف السكن في لندن جد مرتفعة، لدرجة أن معظم الشباب يضطرون للعيش في شقق مكتظة أو للانتقال نحو السكن في الضواحي البعيدة أو للعيش مع ذويهم. أما بالنسبة لسكان برج غرينفل، فإن معظمهم كانوا من المهاجرين، وإنْ كان الكثيرون منهم قد عاشوا في لندن لفترة طويلة. والواقع أن لندن تتوافر على الكثير من الشقق الغالية جداً، والتي لا يستطيع تحمل كلفة إيجارها أو شرائها سوى الأغنياء، غير أن الكثير من هذه الشقق لا يسكنها أحد، في ما عدا بضعة أيام خلال السنة. إذ تشترى في الغالب كاستثمارات من قبل أجانب يريدون وضع جزء من أموالهم في أماكن آمنة. ولا شك في أن الهوة الواضحة جداً بين الأغنياء (فاحشي الثراء) وباقي سكان المدينة من محدودي أو متوسطي الدخل، ستصبح موضوعاً مثيراً للانقسام بشكل أكبر في النقاش الوطني بين الثروة ودولة الرفاه الاجتماعي.