يُشير كثيرٌ من المعطيات الراهنة على الصعيد العالمي إلى انتكاسة العولمة في مناطق وفشلها الكلي في مناطق أخرى، وإعادة النظر في التجمعات الدولية الكبرى، ودخول الدولة الوطنية مرحلة التقسيم سواء أكانت متقدمة أو متخلفة، وظهور نزعات عرقية سَتُنَصَّب فيها القبيلة أو الطائفة أو الجماعة خارج عالمية الكتب السماوية، وبعيداً عن الأيديولوجيات والتصورات الكبرى سواء أحملت تجليات اليقين أو أطياف الشك حكماً، وعندها سيلعب الحيِّزُ الجغرافي دوراً، تؤسس فيه العلاقات بين البشر على مقتضيات وحاجات وضرورات المدينة، وفي مرحلة لاحقة ستتخلى هذه الأخيرة مُكْرهة عن دورها، وعندها سيحتمي كل الناس بقراهم وأريافهم، وسيواجهون صعوبة في التعايش ليس فقط لأنهم سيكونون في مرحلة «ما بعد المدينة»، وإنما لأنهم قطعوا جسور العلاقة في عقود مضت مع قيم القرى والأرياف، حيث الارتباط القوي في العلاقات الاجتماعية. وإلى أن يحين زمن القرية، فإنه علينا التعامل مع واقعنا الدولي على أساس «الدّولة المدينة»، وهنا يحّق لنا الركون في التحليل إلى نظريات علم الاجتماع، وخاصة علم الاجتماع الحضري، لفهم المرحلة الراهنة من عمر البشرية، ذلك لأن اكتفاء المدينة مؤسساتياً وسيطرتها على مقدرات القرى، وشعور سكانها على ما فيها من عنف وإجرام بنوع من الأمان الدائم نتيجة لوجود سلطة الدولة، وتوفر الطاقة والبنية التحتية، وأماكن التسوق، ووسائل الاتصالات.. إلخ، كل ذلك أدَّى بالبعض إلى الاعتقاد: أن الحضارة هنا دائمة إلى الأبد، ولهذا يسعى قادة معارضون إلى سلطة الدولة بمعناها الحديث إلى انفصال مناطقهم لأسباب مقبولة أو مرفوضة، وفي أذهانهم مكتسبات المدينة، ونجد هذا الأمر أكثر وضوحاً في المناطق الغنية بالطاقة ككردستان العراق مثلاً، أو تلك المساهمة بقدر كبير في الاقتصاد الوطني كتالونيا أنموذجاً. التجربة المعاصرة للعيش في المدينة، ومعظمنا طرف فيها، تكشف عن حنين عام إلى القرى والأرياف من أولئك النازحين منها، مصحوب بشعور عام بأن ما يتحقق على المستوى المادي غير مساوٍ للتغير الحاصل في مجالات التفكير وأنماط العلاقات، وهذا يعني تغيُّراً سلبياً في منظومة القيم، أثر في الأفراد وفي قادة الدول، لدرجة أن هناك دولاً تتصرف اليوم بمنطق «الدولة المدينة»، وتتعامل في العلاقات الدولية على أساس ما تفرزه علاقات الناس داخل المدن، من منطلق أن تلك حالة عامة، وهي سمة عصر، مع أنها ترى الهزات الكبرى للتحالفات وللعولمة نتيجة سيادة هذا النوع من التفكير، لكنها بالتأكيد فاقدة للبصيرة هنا. لقد تحدّث الأولون، ومنهم أفلاطون في الفلسفة اليونانية والفارابي في الفلسفة الإسلامية، عن المدينة الفاضلة، سعياً لتحقيق قيم الجمال والحق والعدل والخير، ولا شك أن مؤسسات كثيرة داخل مدننا المعاصرة تعمل من أجل هذا، ما يعني أنها ليست شراًّ في المطلق ولا هي خير كلها، لأنها باختصار منجز بشري، لكن خوفنا اليوم في ظل نزاعات التمرد على سلطة الدولة المركزية، آتٍ من كون شعارات التقسيم أو الانفصال داخل أي دولة اليوم لا تدعو إلى فصل مدينة العاصمة، وإقامة دولة جديدة فيها، وإنما كل الدعوات قائمة على فصل الأطراف عن المركز، من منطلق أن «مدينة العاصمة هي الدولة»، وهذه مشكلة مصيرية تتطلب حلولاً عاجلة، ربما الأقرب نظرياً هو ترييف المدن، لجهة مزج قيم البداوة بالتحضر، وعصرنة الأرياف والقرى عبر جسور متواصلة يحس فيها الموطنون بحصولهم على نفس مكتسبات المدن، ومنها حضور الدولة مؤسساتياً وليس سلطوياً فقط.