يوم الأحد الأول أكتوبر الجاري، أقْدم رجل مسلح منفرد على قتل 59 شخصاً في إحدى ساحات مدينة لاس فيجاس المكتظة، كما أصاب أكثر من 500 شخص آخرين بجروح كان بعضها خطيراً. وكان الضحايا يتابعون حفلاً حاشداً ضم أعداداً كبيرة من المتفرجين ضمن فعاليات المهرجان الموسيقي السنوي لأميركا كلها، كان يجري في ساحة مكشوفة قريبة من الفندق الكبير الذي تم إطلاق النار منه. وهذا الهجوم الناري هو الأسوأ في تاريخ أميركا الحديث. ولسوء الحظ، فإنه بكل تأكيد لن يكون الأخير بسبب الحرية الممنوحة للمواطنين الأميركيين بامتلاك الأسلحة الفردية وفقاً للمادة الثانية المعدّلة من دستور الولايات المتحدة. وكان القاتل المسلح «ستيفن بادوك» قد تمكن من امتلاك ترسانة غير عادية من الأسلحة في الجناح الفندقي الذي كان يقيم فيه، بما في ذلك البنادق الرشاشة نصف الآلية والآليّة، بالإضافة إلى مئات من مخازن الذخيرة. واكتشف رجال الشرطة أثناء التحقيق أنه يمتلك كذلك 19 سلاحاً فردياً بأحد البيوت التي يمتلكها في بلدة «مسكوايت» بولاية نيفادا. ووفقاً للمعطيات الأولية للتحقيق، فقد تبيّن أن «بادوك» كان «ذئباً منفرداً»، ليس له أي ارتباط بالجماعات الإرهابية. وكان قد أقدم على محاولة انتحار فاشلة في إحدى غرف الجناح الذي يشغله في الفندق قبل بضعة أيام من اقترافه لجريمته الكبرى. ووصِفَ بأنه «ابن لاس فيجاس» الذي يهوى لعب القمار رغم سيرته الناجحة في العمل والتجارة. ولا تزال الدوافع وراء إقدامه على ارتكاب هذه الجريمة غامضة. ويعاني الأميركيون الآن، بمن فيهم الرئيس، من حالة حزن وغضب كبيرين بسبب تكرر هذه الحوادث المأساوية. وإذا كان للماضي القريب لهذه السلسلة من الأحداث أن يدلّ على شيء، فهو أن التشريعات المناسبة لتقييد قوانين حمل السلاح الفردي سوف يتم إجهاضها من طرف صنّاع الأسلحة و«اللوبيات» أو مجموعات الضغط التي تدعمهم في واشنطن، ومن أهمها «الجمعية الوطنية للبنادق»، فضلاً عن الدعم الذي يتلقونه من الأعضاء الجمهوريين في الكونجرس. وعندما يتعلق الأمر بحقوق حيازة المسدسات الفردية، فإن أميركا تُعدّ من دون منازع الدولة التي لا تزاحمها دولة أخرى في هذا المجال. وحيث لا نجد دولة متطورة أخرى تعتمد مثل هذه القوانين المتساهلة التي تعتمدها. وتُقدر بعض الإحصائيات عدد المسدسات في بيوت الأميركيين بنحو 300 مليون، أو ما يقارب مسدساً لكل مواطن أميركي بمن في ذلك النساء والأطفال! وكل عام، يموت آلاف الأميركيين بطلقات الأسلحة النارية. وتكون بعض حالات الموت بسبب الحوادث، ويكون الانتحار والإجرام سبباً في حالات أخرى. ولعل الإحصائية الأكثر إثارة الهلع هي تلك التي نشرتها صحيفة «واشنطن بوست» يوم 15 سبتمبر المنصرم، والتي أفادت بأن 23 طفلاً في المتوسط يموتون يومياً في الولايات المتحدة عن طريق الخطأ بطلقات الرصاص. ومما يزيد الكارثة سوءاً تكاليف معالجة جرحى حوادث إطلاق النار التي تُقدّر بمئات ملايين الدولارات سنوياً. والحقيقة الأخرى التي تجدر الإشارة إليها هي أن التحريض الخارجي على ممارسة الإرهاب لا يتسبب إلا بنسبة ضئيلة من حوادث الموت بإطلاق النار التي تشهدها الولايات المتحدة. ويرى أقوى المعارضين لفرض رقابة صارمة على حيازة الأسلحة الفردية بأن هذا هو الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه سياسيو الأجنحة اليسارية الذين يطالبون بفرض نوع من الضوابط على حيازة واستخدام تلك الأسلحة، وهذا ما يحدث بالفعل في دول تُصنّف على أنها حليفة للولايات المتحدة، ومنها كندا وأستراليا والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بما فيها بريطانيا. أما دعاة حرية حيازة الأسلحة الفردية، فيحذرون من أن أي مسعى لفرض القيود على حيازة الأسلحة الفردية لن يمثل إلا بداية لعصر جديد من تعزيز سلطة الدولة يمكن أن ينتهي بفرض الرقابة على حرية المواطنين. ولا بد من الإشارة أيضاً إلى أن تلك الفترات في تاريخ أميركا التي برزت خلالها الرغبة في وضع قوانين أكثر صرامة للرقابة على حمل الأسلحة الفردية، جاءت في فترات كان فيها «السياسيون البيض» يتخوفون من أن تسمح القوانين السابقة للأميركيين الأفارقة باكتساب سلطة قوية من خلال شراء الأسلحة. وكان الخوف الأكبر يكمن في إقدام «السود» المسلحين على التمرّد ضد المؤسسات الحكومية التي يديرها «البيض». وفي عام 1967، أجازت كاليفورنيا «قانون مولفورد» الذي يبطل العمل بقانون سابق يسمح لعامة الناس بحمل الأسلحة النارية المعبأة بالذخيرة. وجاء هذا التعديل رداً على إقدام جماعة ثورية من «السود» على تسيير دوريات مسلحة خاصة بها في شوارع مدينة أوكلاند بولاية كاليفورنيا لحماية السكان السود من وحشية رجال الشرطة البيض. ولسوء الحظ، فقد يتطلب الأمر سلسلة أخرى من المذابح الشبيهة بمذبحة لاس فيجاس حتى تتمكن أميركا من تحجيم القوى الخفيّة المتحكمة بقوانين حيازة وحمل الأسلحة الفردية. ولن يحدث هذا ما لم يعد «الحزب الديمقراطي» إلى السلطة في البيت الأبيض ويستعيد الأغلبية في مجلسي الشيوخ والنواب. ----------------- *مدير البرامج الاستراتيجية بمركز «ناشيونال إنترست» -واشنطن