بعد نحو سبعة عقود تقريباً على قيام إسرائيل بالاستيلاء بالقوة على الأراضي الفلسطينية باتت هناك علامة استفهام في الأفق: هل من الممكن التوصل إلى سلام بين الفلسطينيين والاسرائيليين عبر صفقة تكون الولايات المتحدة الأميركية بنوع خاص عرابها كما كان الحال في زمن كامب ديفيد عندما استطاع الرئيس جيمي كارتر أن يلعب دوراً تصالحياً بين مصر وإسرائيل؟ لعل المتابع الجيد لتطورات الأوضاع في المنطقة الشرق الأوسطية يدرك تمام الإدراك أن هناك واقعاً جديداً أضحى قائماً، وأنه بات من مصلحة إسرائيل التوصل إلى مثل هذا السلام ولو على مضض، سيما وأن الفوائد التي يمكن لإسرائيل تحصيلها من جراء إنهاء النزاع، أكبر بكثير مما يُخيل إليها أنها خسائر. ماذا عن المعطيات الدولية الجديدة؟ هل إسرائيل في حاجة للانتهاء من الصراع مع الفلسطينيين للتفرغ للمواجهة التي لابد منها مع ايران، تلك التي تهدد بمحو إسرائيل من على الخريطة سراً وجهراً؟ كثير من رجالات الأمن القومي الإسرائيلي يرون أن ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تجرى الصفقات أو على الاقل التمهيد لها في سرعة شديدة. من إيران يعن لنا الارتحال إلى ألمانيا حيث جاءت نتيجة الانتخابات البرلمانية الاخيرة لتحمل قلقاً بالغاً لليهود الألمان ولبقية يهود أوروبا عموماً. أما السبب فهو وصول حزب «البديل من أجل ألمانيا»، ذلك الوريث الشرعي للنازية إلى البوندستاج الألماني «البرلمان»، بعد أن تحصل على مائة مقعد تقريباً هناك، ما يجعله طرفا فاعلا ومؤثرا في الحياة الحزبية الألمانية. يعرف «البديل من أجل ألمانيا» بمواقفه العنصرية ورفضة للأجانب ومحاولة الحفاظ على نقاء الثقافة الألمانية وجميعها مقدمات مزعجة لليهود هناك، وتذكر الشعارات ذاتها التي رفعها هتلر في ثلاثينيات القرن المنصرم. هنا ومرة جديدة بات السؤال المطروح في الداخل الإسرائيلي: أليس السلام أنفع وأرفع، إذ يوفر ليهود العالم دولة مستقلة ومستقرة تعيش في أمن وأمان مع جيرانها عوضاً عن حالة المعاداة للسامية المتفشية تاريخياً في أوروبا، حتى وإن مروا لاحقاً بفترات هدوء؟ السؤال يحمل الجواب في باطنه بمعنى أن العرب لم يكونوا يوماً أعداءً عقائديين أو عرقيين لليهود والتاريخ العربي والإسلامي شاهد على ذلك، ولهذا فهناك إمكانية حقيقية ما للتوصل إلى صيغة ترفع الخوف والهلع من على يهود العالم وتتيح لهم العيش بسلام داخل إسرائيل. أما عن المنظور الثالث الذي يدفع إسرائيل نحو السلام إن وجد لدى قادتها اليوم شيء من العقل الواعي المدرك هو بعد اقتصادي بامتياز، ولا ينفصل عن المخاوف المرتقبة تجاه يهود أوروبا وأعمالهم حول العالم، إذ أن السلام الحقيقي العادل والشامل غير المنقوص، يمكن أن يفتح أمام الإسرائيليين أبواب العالم العربي عبر التبادل التجاري والاقتصادي بداية، ولا نقول التطبيع الكامل مرة وإلى الأبد، فهناك أجيال عديدة لاتزال تحمل مرارات كبيرة من جراء حروب إسرائيل وعدوانها على الدول العربية. أميركا وترامب.. حلم نوبل والقيصر ضمن الأسباب التي يمكن لها كذلك أن تعجل ببلورة «صفقة سلام» بين الإسرائيليين والفلسطينيين يأتي الدور الأميركي في المقدمة، ومهما قيل عن هذا الدور إلا أنه في كل الأحوال يبقى عاملاً أساسياً ورئيسياً في التوصل إلى أي سلام، وذلك لما لدى أميركا من نفوذ في الشرق الاوسط، سواء تعلق ذلك بالعلاقات بين تل أبيب وواشنطن، أو بين واشنطن وبقية العواصم العربية. يدفع في سبيل السلام، وجود رئيس من خارج ما يعرف بـ«الاستبلشمنت» المؤسسة الأميركية الحزبية التقليدية المشهورة بالفساد السياسي، وقد تجرأ ترامب بالفعل خلال حملته الانتخابية الرئاسية على الأمل الحقيقي أي إمكانية إدراك سلام حقيقي بين الفلسطينيين والإسرائيليين. على أن جرأة ترامب هنا تذكرنا بخيبة امل سلفه أوباما الذي باع للعرب وللمسلمين وحتى الإسرائيليين سلاماً واهياً أجوف مفرغاً من أي قيمة حقيقية عند بداية رئاسته، ولاحقاً أدرك الجميع أن الرجل لم يقترب أبداً من حدود الحلم الأميركي الذي تجرأ عليه «كارتر» من قبل في الوصول إلى سلام حقيقي، وقد فضل طوال ثماني سنوات القيادة من خلف الكواليس لتحقيق أهداف ستكون يوماً محل تحقيق لاسيما مناصرته لجماعات الإسلام السياسي. ولعل السؤال المطروح هنا: هل يصبح ترامب قيصراً أميركيا بامتياز؟ في كتاب القياصرة الأميركيين يحدثنا كاتب سير الزعماء السير نايجل هاملتون عن عدد من رؤساء الولايات المتحدة في المائة عام الماضية، وكيف أن بعضهم وصل إلى مرحلة من العظمة من جراء تحقيق منجزات كبيرة بعينها، وهنا يمكن لترامب أن يضحى الرئيس القيصر الذي يساعد الطرفين للتوصل إلى سلام حقيقي، وساعتها سيدخل التاريخ من أوسع أبوابه سيما وأنه يعهد بالملف لصهره النافذ في البيت الابيض جاريد كوشنر، غير أن السؤال كيف لترامب أن يفعلها؟ دنيس روس والمسار الصحيح يعرف دنيس روس بأنه أكثر الأميركيين الذين لهم صلة وعلاقة بأحداث النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي، وقد خدم الرجل في عدة عهود في البيت الأبيض، آخرها إدارة أوباما عطفاً على وجوده النافذ في مراكز البحوث الأميركية واليوم هو مستشار وزميل ويليام ديفيدسون المتميز في «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى». وقد كتب الرجل في نهايات سبتمبر المنصرم ورقة بحثية اشار فيها الى ان اللقاء الذي جمع بين أبومازن ونتنياهو على هامش أعمال الجمعية العمومية الأخير يمكن أن يكون فرصة جيدة لتحقيق ما يراه كصفقة جيدة أو فرصة جيدة تقود لصفقة نهائية. يذهب «دنيس روس» إلى أنه أمام إدارة دونالد ترامب الكثير من العمل للقيام به، ففي الوقت الحاضر يبقى تركيزها الكامل منصبا على تنظيم «داعش» في سوريا والعراق، في حين تهيئ ايران نفسها لملء الفراغ الذي سيظهر بعد هزيمة «داعش»، وإذا كانت السياسة الأميركية على استعداد للقبول بهذا الواقع، فإن الولايات المتحدة لا تمنع حدوثه الآن، بأي شكل، ويتعين عليها أن تفهم أيضاً أن السعوديين والإماراتيين وغيرهم لن يصدروا سوى بيانات عامة حول السلام الإسرائيلي – الفلسطيني. وعليه بحسب «روس» على ترامب ومساعديه تفهم أن بقية الدول العربية، لن تأخذ موقفاً جدياً من أي تحرك من قبل واشنطن تجاه السلام، إلا إذا كان موقفاً جدياً، ويصل إلى حل نهائي للقضايا الأساسية، وفي مقدمتها وضع المدينة المقدسة «القدس». وبالرغم من أن «روس» يجزم بأن القادة في إسرائيل اليوم غير مستعدين لوضع «القدس» على الطاولة للنقاش، إلا أنه يقدم بعض المقترحات التي تقرب المسافات، منها أن تطلب إدارة ترامب من بعض الدول العربية الحليفة إعلان أنهم سيرسلون وفوداً إلى إسرائيل لمناقشة التهديدات المشتركة في المنطقة والضمانات الأمنية تحت عنوان «مبادرة السلام العربية». وفي المقابل بإمكان إسرائيل أن تُعلن أنه نظراً لالتزامها «حل الدولتين»، فإنها لن تُقدم على بناء المستوطنات خارج الكتل الاستيطانية، وتتنازل عن السيادة في المناطق التي تقع شرق الحاجز الأمني، أو ما يصل إلى 92% من الضفة الغربية. وفي كل الأحوال يوصي «دنيس روس» بأنه من الضروري استخدام الدبلوماسية الهادئة من أجل تسيير هذه التفاهمات وإعلانها في وقت واحد ربما عند استئناف المفاوضات، وقد لا تكون هذه الصفقة النهائية التي يروّج لها الرئيس ترامب ممكنة، بيد أنها قد تكسر الجمود الحالي وتظهر أن إدارة ترمب قد أحرزت تقدماً لم تتمكن من تحقيقه الإدارة الأميركية السابقة. الجهود المصرية والقرارات الفلسطينية رأت مصر أن الوقت الحاضر قد يكون ملائماً جداً لطرح القضية من جديد ودفعها لإنهاء الأزمة التي طالت. تدرك إدارة مصر اليوم والرئيس السيسي على رأسها أن الانشقاق الفلسطيني- الفلسطيني هو أكبر كبوة في طريق السلام، سيما وأن إسرائيل تتذرع به دوماً للتهرب من أية استحقاقات سلام ممكنة، ولهذا جاءت مصر لتنهي مؤخراً النزاع بين الفلسطينيين وبعضهم البعض ليقفوا صفاً واحداً في توحيد مطالبهم، وإعلاء حقوقهم أمام المجتمع الدولي. في هذا السياق تلاقت الجهود المصرية مع القرارات الفلسطينية مثل تأجيل محمود عباس رئيس السلطة عدة إجراءات ضد إسرائيل في مجلس الأمن، وذلك لإتاحة الفرصة لعرض خطة السلام الجديدة التي يطرحها دونالد ترامب. هل جرت في المياه بين الفلسطينيين وترامب مراكب سلام؟ يمكن ان يكون الامر على هذا النحو بالفعل، وهو ما تحدثت به صحيفة «يسرائيل هيوم» العبرية أواخر أغسطس الماضي، عندما أشارت إلى أن «جاريد كوشنر» مبعوث ترامب للشرق الاوسط طلب من رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس تجميد الخطوات الدبلوماسية ضد تل أبيب لفترة أربعة أشهر مقابل التزام أميركي بطرح خطة سياسية منظمة لتحريك العملية السلمية خلال هذه الفترة. وسائل الإعلام الأميركية من جهتها أشارت إلى أن ترامب طلب من عباس التريث لحين الانتهاء من بلورة الافكار بشكل كامل ولكن دون الكشف عن ماهيتها وما اذا كانت ستتبنى حل الدولتين. فيما أشارت صحف أميركية عدة إلى خبر إبلاغ ترامب لعباس بالخطة خلال لقائه على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة ووعوه بعرض البيت الأبيض لخطة تسوية جديدة خلال الأسابيع القادمة. وعلى الجانب الإسرائيلي علت اصوات تقول بان «الادارة في واشنطن تنوي صياغة خطة سياسية تشمل جدولا زمنيا محددا بشكل مسبق يتم خلاله مناقشة كل المسائل الجوهرية في المفاوضات شريطة ان يحافظ الفلسطينيون على الهدوء. هل يحلم ترامب بجائزة نوبل للسلام؟ المؤكد ان الرجل يفعل وحال نجاحه في إدراك هذا السلام ستكون من نصيبه، ولهذا نراه يراهن على أن انهاء هذا الصراع طويل الأمد هو بداية حقيقية لاستعادة واشنطن دورها الريادي والقيادي في المنطقة وكذا محاولة استرجاع جزء من الشعبية التي هبطت إلى حد غير مسبوق منذ غزو العراق، ولهذا فالأحاديث تجري اليوم في واشنطن عن قمة عربية إسرائيلية أميركية غير مسبوقة، تلعب فيها مصر دور القاطرة وربما تعقد في مدينة السلام شرم الشيخ المصرية قبل نهاية العام الجاري، أو في أميركا قبل أعياد الميلاد في ديسمبر المقبل لبدء التوصل إلى اتفاق نهائي للسلام. هل يقبل نتنياهو على السلام؟ هناك معطيات دولية جديدة تجعله مقبل على السلام ولو كمن يتجرع الدواء المر للشفاء من أهوال أمراض بعضها قائم والاخر قادم. خذ اليك على سبيل المثال بعض من احداث تدلل على جهوزية المجتمع الدولي للاعتراف بالدولة الفلسطينية، وقد كان اخر تلك الاحداث إعلان منظمة الشرطة الجنائية الدولية الانتربول عن قبول عضوية فلسطين بعد تصويت الجمعية العامة للمنظمة خلال اجتماع بكين، موجهة بذلك صفعة جديدة للاحتلال الإسرائيلي وقد فسر وزير الخارجية والمغتربين الفلسطينيين رياض المالكي القرار بانه انعكاس لثقة في قدرات فلسطين على إنفاذ القانون والالتزام بالقيم الأساسية للمنظمة». هنا تجد إسرائيل نفسها يوما تلو الاخر في مواجهة اعترافات متتالية من المجتمع الدولي بالدولة الفلسطينية القادمة لامحالة ما ينتقص من مكانتها واظهارها كنظام ارباتهيد عنصري. هل لهذا نقلت صحيفة هآرتس بتاريخ 25 سبتمبر عن نتنياهو انه يجهز وزراءه لخطة سلام أميركية قادمة لامحالة؟ ربما تدرك اسرائيل اليوم ان السلام هو أفضل طريق لتجنب السير في دروب مهالك عديدة، وأن الغي السادر والظلم والغبن ستقع نتائجه سلباً عليها، وفي الأثناء تبقى مواقف ترامب مصيرية في تحديد شكل الصفقة القادمة... هل ينتظر الشرق الاوسط سلاما طال انتظاره؟ *كاتب مصري ــ ـ ـ ــ ـ مبعوث ترامب للشرق الأوسط طلب من رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس تجميد الخطوات الدبلوماسية ضد تل أبيب لفترة أربعة أشهر مقابل التزام أميركي بطرح خطة سياسية منظمة لتحريك العملية السلمية خلال هذه الفترة ـ ـ ــ ـ ـ ــ ـ ـ الأحاديث تجري اليوم في واشنطن عن قمة عربية إسرائيلية أميركية غير مسبوقة، تلعب فيها مصر دور القاطرة وربما تعقد في مدينة السلام شرم الشيخ المصرية قبل نهاية العام الجاري، أو في أميركا قبل أعياد الميلاد في ديسمبر المقبل لبدء التوصل إلى اتفاق نهائي للسلام