تظهر الأبحاث والدراسات الحديثة، واحدة تلو الأخرى، عمق وقوة العلاقة بين التعليم، والصحة والمرض، وآخر تلك الدراسات، أعلنت نتائجها بداية الأسبوع الجاري، وأجراها علماء جامعة «إدنبره» باسكتلندا، وخلصت إلى أن كل عام يقضيه المرء في التعليم والدراسة، يضيف 11 شهراً إلى متوسط عمره. بمعنى أن الشخص الذي يقضي مثلاً عشرة أعوام أكثر في التعليم، مقارنة بأقرانه، يزداد متوسط عمره عنهم بمقدار 110 أشهر، أي ما يزيد قليلاً عن تسعة أعوام. ويرد علماء «إدنبره» هذه العلاقة إلى طفرات محددة في التركيبة الوراثية، وهو إن كان مسؤولاً جزئياً عن هذه الزيادة في متوسط العمر، إلا أن المعروف أن العلاقة بين التعليم والصحة هو أنها علاقة مركبة متشابكة، وأحد أهم جوانب هذه العلاقة يتجسد من خلال تأثير التعليم على أسلوب أو نمط الحياة الشخصي، أو ما يعرف بالاختيارات الحياتية الشخصية، فمن المنظور الاجتماعي يشير مصطلح نمط أو نوعية الحياة، إلى توصيف الطريقة التي يحيا بها إنسانٌ ما حياته، ويعود بداية استخدام هذا المصطلح إلى أحد علماء النفس النمساويين في عام 1929، وإن كان معناه الأوسع، وشائع الاستخدام حالياً، قد تزامن مع بداية عقد الستينيات. وهذا المعنى الحالي يشير إلى حزمة من السلوكيات، والأفكار المرتبطة بالذات والانتماء، وما تمثله السلوكيات الشخصية في هذه المنظومة الإدراكية العامة. وعلى رغم أن هذا المصطلح أو المفهوم يحمل مغزى ودلالات خاصة في مجالات مختلفة مثل مجال التسويق، والأنماط الاستهلاكية، والسياسة، وسبل الترفيه، وغيرها، فإن علاقته بالصحة والمرض أصبحت تحتل مكانة خاصة على صعيد احتمالات الإصابة بالأمراض المختلفة، المعدية وغير المعدية. وتترك نوعية التعليم والفترة التي قضاها المرء على مقاعد الدراسة أثراً عميقاً، ليس فقط على الاختيارات الشخصية للمرء، وإنما أيضاً على حياة الأشخاص المحيطين به، وخصوصاً أفراد الأسرة، وبالتحديد الأطفال، حيث تظهر الإحصائيات والدراسات التي تجرى في الدول النامية وجود علاقة قوية بين مستوى تعليم الأمهات وبين مستويات التطعيمات بين الأطفال ضد العديد من الأمراض المعدية التي يمكن تحقيق الوقاية ضدها من خلال التطعيمات الطبية، مثل شلل الأطفال، والدفتيريا، والتيتانوس، والسعال الديكي، والحصبة، والسل. وهو ما اتضح من خلال تحليل بيانات مستوى التطعيمات في نيجيريا منتصف الصيف الماضي، ففي الوقت الذي كان فيه متوسط مستوى هذه التغطية بين السكان عامة يبلغ 24 في المئة، انخفضت هذه النسبة إلى 6 في المئة فقط بين أطفال الأمهات الأميات، والمؤسف أن واحدة من بين كل أربع وفيات تقع بين الأطفال الأقل من سن الخامسة، تكون نتيجة مرض معدٍ، كان من الممكن الوقاية منه باستخدام التطعيمات الطبية، وهو ما يظهر مدى فداحة الثمن الإنساني لتراجع مستوى تعليم الأمهات في بعض الدول والمجتمعات. وعلى المنوال نفسه، وحسب دراسة أميركية قارنت بين معدلات الإصابة بعته الشيخوخة بين مجموعتين، فبخلاف الفارق البيّن بينهما في معدلات الإصابة، كان هناك أيضاً فارق بيّن آخر هو التباين بين المجموعتين في عدد سنوات التعلم والدراسة. ففي المجموعة التي خضعت للدراسة عام 2000، وكانت تعاني من ارتفاع في معدلات الإصابة، أو 11.6 في المئة، بلغ متوسط مجمل سنوات التعلم 11.8 عام. أما أفراد مجموعة سنة 2012، التي انخفضت معدلات الإصابة لدى أفرادها إلى مجرد 8.8 في المئة، فكان متوسط مجمل سنوات التعلم لديهم هو 12.7 عام، وهو ما يعني أن زيادة عدد سنوات التعلم بحوالي سنة واحدة فقط، سواء من خلال المدرسة أو لاحقاً في الجامعات، ارتبط وترافق بانخفاض معدلات الإصابة بحوالي 3 في المئة. ويحتمل أن تكون هذه العلاقة بين معدلات الإصابة وسنوات التعلم هي نتيجة التحديات العقلية والرياضة الذهنية، اللتين تترافقان مع سنوات الدراسة، ما يوفر حماية لخلايا المخ في المراحل المتأخرة من الحياة، كما يحتمل أيضاً، أنه مع التقدم في العمر وبدء الخلايا العصبية في الاضمحلال والانحلال، تساعد سنوات الدراسة باقي خلايا المخ على إعادة تنظيم الوصلات العصبية الكهربائية بداخله، والاعتماد على خلايا أخرى كانت كامنة، واستغلال طاقات المتاح من الخلايا السليمة بحد أقصى، وهو ما يساعد في النهاية على تعويض التدهور المصاحب لعته الشيخوخة، أو على الأقل منع وتأجيل ظهور الأعراض.