من مفارقات حياتي أنني شهدت أكثر من مناسبة لتخريج أبنائي وبناتي وإن لم أشهد تخرجي من جامعة الإمارات لتواجدي في مهمة رسمية خارج الدولة، وجاء العَوض بعد 35 عاماً على التخرج، حين كرّمني صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، عندما استدعى سموه خريجي الدفعة الأولى إلى منصة التشريف. اليوم أعيد ذات المشهد في تخريج إحدى بناتي من كندا في جامعة «WINDSOR» المدينة التي تقع على نهر «DETROIT»، وهو الحد الفاصل بين جنوب كندا الملاصق لديترويت قلب الصناعة النابض وكنا نرى وسط المدينة من على بعد أمتار متألقة بأبراجها وأبرزها شركة «GM» لصناعة السيارات. هذا الشريان المائي، أمده بشريان آخر لدفعات الخريجين من جامعة «وينسور» وقد خرّجت منذ التأسيس قرابة مئة ألف طالب وطالبة من مختلف الأعراق والجنسيات والبلدان في العالم، يندر ألا تسمع عن دولة غير ممثلة في هذا الشريان الجامعي المتدفق. وقد أكد مدير الجامعة في كلمته الافتتاحية المفعمة بالحيوية المتدفقة بالإيجابية على أمرين، الأول والأهم هو أن هذه الجامعة تساهم في بناء «Common platform» منصة مشتركة بين الشعوب، والآخر، أن الخريجين ليسوا معلبات ولا آلات صناعية، بل هم الأساس لهذه المنتجات، والأهم من كل منتج في العالم أجمع. وأجمل صور هذا الحفل البهيج هو عودة إحدى الطالبات بعد 27 عاماً لذات الجامعة لنيل درجة الدكتوراه الفخرية في القانون، بعد أن تخرجت قبل قرابة ثلاثة عقود بدرجة البكالوريوس في علم الجريمة. وقد شرّفت الحفل في إلقاء كلمة مؤثرة عن ملخص حياتها في الفترة الماضية بعد أن تبوأت منصب السيناتور عن هذه المدينة الحاضنة لنهر ديترويت، وأهم ما فيها تأثرها بعد التخرج برجل أعمى أثناء القيام بتوزيع المطويات الخاصة بالانتخابات البرلمانية، فسمعته وهو يتحدث إليها عن أهمية العدالة الاجتماعية في المجتمع، والرجل ينتمي إلى الحزب الديمقراطي وهو ما حدد بعد ذلك اتجاهها السياسي وإن خالف اتجاه والدها في انتمائه إلى حزب المحافظين. وأشارت إلى أن والدها تقبلها على مضض، بل وحثها على أن تفعل وتمارس قناعاتها وهذا هو الأهم. فعلاً كانت السيناتور سندانة ورد ذلك اليوم المشهود والمليء بطاقات الشباب المتجددة، كما هي في الطبيعة. فإذا كانت الدول المتقدمة تبحث لها اليوم عن مصادر الطاقة المتجددة في الوقود الأحفوري، والطاقة النووية، وطاقة المياه والكهرباء، والطاقة الشمسية والرياح، فهؤلاء الخريجون هم المصادر الحقيقية للطاقة المتجددة، وقد أثبتت السيناتور ذلك في الحفل بعد انقطاعها عن التعلم لعقود، عادت وهي في قمة عطائها لتكافأ على تجدد طاقتها وجهودها في صالح الإنسان الكندي. ولم تغتر لحظة منذ تخرجها الأول، وحثت الخريجين الجدد مواصلة التعلّم إلى ما لا نهاية وهو السر الذي يجب عدم كتمانه والبوح به والصدح والإفصاح عنه في كل المناسبات. إن التعليم ثم التعليم هو رافعة المجتمعات كلها نحو التقدم الحقيقي للأمم الحيّة وغير ذلك فهو خداع للنفس وبريق إعلامي لا يستمر في الواقع لثوان ثم يحل ظلام الجهل ولو امتُلكت كافة الأجهزة المعاصرة، وهي غير التعليم المنشود لكل العهود. وأثناء خروجي من قاعة الاحتفال، صادفت رجلاً كبير السن يطلب مني مداعباً: هل لي أن آخذ باقة الورد التي بين يديك، قلت: بكل سرور، بل أنت الباقة الحقيقية التي تشرف أبناءك اليوم أو أحفادك. فحكاية نهر الخريجين طغت على نهر «ديترويت» وقد كنا ساعة إذن بحاجة إلى غرفة في أحد فنادق «وينسور» فكان رد الجميع بأن هذا النهر قد غمر كل غرفة في كل المدينة فعدنا إلى البيت لمواصلة جريان النهر هناك.