في كتاب صدر مؤخراً تحت عنوان: «ديمقراطية الهواتف الذكية: الشعبوية متن ترامب إلى ماكرون»، يناقش الكاتب الفرنسي فرانسيس بروشيه ظاهرة التحول الكبير في الممارسة السياسية والديمقراطية في العديد من الدول الغربية من واقع اتساع تأثير دور وحضور العوالم الرقمية وخدمات الهواتف الذكية في عمليات الدعاية الانتخابية، وأيضاً في توسيع وتسريع فعالية قنوات التواصل بين الساسة والناخبين والمواطنين العاديين بشكل عام. ولعل مما يزيد من قيمة هذا الكتاب أن مؤلفه، فرانسيس بروشيه، يعتبر في السياق السياسي الفرنسي، على الأقل، أحد صحفيي فرنسا الأعماق، ذوي الصلة العميقة والمعرفة الواسعة بآليات وسبل التأثير على القواعد الانتخابية، وكيفية بناء توجهات الرأي العام حتى في المناطق البعيدة عن العواصم والمدن الكبرى الواقعة عادة، دون غيرها، تحت دائرة الضوء وتركيز عدسات وسائل الإعلام. فقد عمل بروشيه من قبل كاتب افتتاحيات في العديد من الصحف المحلية في الأقاليم، كما ألف أيضاً ثلاثة كتب متصلة بتشابكات وتعقيدات العلاقة بين الساسة والناخبين في بلاده، وفي أوروبا بصفة عامة. وفي هذا الكتاب الواقع في 216 صفحة، والموثق بشكل جيد، ينطلق المؤلف من فرضية عمل مؤداها أن الهواتف الذكية التي باتت الآن في أيدي الجميع قد غيرت جذرياً من العلاقات الاجتماعية والسياسية، إذ بفعلها، أو بفضلها، صار لدى الناس انطباع عام بأن لديهم علاقة مباشرة، وقوة تأثير مؤكدة، في العالم، وأن بمقدورهم تغيير كثير من معطيات هذا العالم بصفة فعالة، وبالطريقة التي يريدونها هم من خلال إسماع أصواتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي وبصور الاتصال الأخرى المتاحة عبر هذا الجهاز الذكي الصغير الخطير. وفي هذا السياق يضرب الكاتب مثلاً بفوز الرئيس دونالد ترامب على رغم توقعات الصحافة على نطاق واسع أثناء الحملة بأن هذا الفوز مستبعد إلى حد بعيد. وكذلك فوز رهان الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي «البريكسيت» أيضاً على رغم وقوف الأحزاب الكبرى وشرائح كان يعتقد أنها أغلبية من البريطانيين ضد هذا الخروج. وبالمثل فقد جاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أيضاً من بعيد ليتقدم الصفوف ويدخل قصر الأليزيه في النهاية، عكساً لكل التوقعات التي كانت سارية قبل فوزه بأشهر قليلة. وكل هذه النماذج التي تمخضت صناديق الاقتراع فيها عن مفاجآت، إنما تقف الهواتف الذكية في الحقيقة وراء الجانب الخفي من مفاجآتها الكبيرة، وذلك لقدرتها على إيجاد قنوات تواصل مباشرة بين الساسة والجمهور، وأيضاً لتمكينها شرائح شعبية واسعة كانت مغيبة في إعلام التيار الرئيس من إسماع أصواتها، والتأثير بصفة مباشرة في مزاج وتوجهات الرأي العام. ويرى الكاتب أن هذا التحول الذي كرس نوعاً من الديمقراطية المباشرة، دون وسطاء كالأحزاب والهيئات التمثيلية، يمثل في الواقع ثورة في طبيعة الممارسة السياسية نفسها، وهي ثورة حافلة بالوعود: حيث إنها توفر للمحكومين فرص التواصل المباشر مع الحكام، والمشاركة بصيغة فعالة في وضع البرامج الاقتصادية والاجتماعية، وفرض اختيارات وأولويات معينة على المنتخبين والمشرعين وصناع القرار، هذا فضلاً عن ترجيح كفة بعض المرشحين دون بعض آخر. ولكن هذه الديمقراطية المباشرة، أو الديمقراطية الدائمة، التي تفرض نفسها بدلاً من الديمقراطية الانتخابية لها هي أيضاً سلبياتها ووجهها الأسود: وأول ذلك كثرة تفشي البيانات والمعلومات غير الدقيقة، ومشكلة المصداقية والموثوقية، وزيادة تطرف الرأي العام، وتفشي العنف الخطابي، وقبل هذا وذاك ارتفاع عقيرة الخطاب الشعبوي لدى بعض الساسة الذين قد يصدرون خلال الحملات وعوداً غير واقعية، لمعرفتهم بأنهم يخاطبون رجل الشارع البسيط. وهذا ما حصل بالفعل في كثير من الحالات، وهو ما يعد، في النهاية، كعب أخيل ومقتلاً لهذه الديمقراطية التخيلية، الافتراضية، الجديدة. حسن ولد المختار الكتاب: ديمقراطية الهواتف الذكية المؤلف: فرانسيس بروشيه الناشر: المنشورات الجديدة، فرانسوا بوريه تاريخ النشر: 2017