تشهد العديد من المدن الإيرانية مظاهرات ضخمة واضطرابات صاخبة معظمها يتسم بالعنف ضد النظام الحاكم والنخبة الدينية - السياسية التي تسير أمور البلاد احتجاجاً على الطرق والوسائل التي يتم بها إدارة الأمور داخلياً وخارجياً. ومنذ سنوات ونحن نشير إلى أن إيران تشهد تململاً شعبياً واسعاً يتفاعل بصمت بسبب القمع والاضطهاد الذي تمارسه أجهزة أمن النظام على كافة الفئات الشعبية وتستخدم فيه شتى أنواع التنكيل والتعذيب والتصفيات الجسدية تحت أعذار شتى إلى أن انفجرت الأوضاع بالصورة التي نسمع عنها الآن. وهذا التململ الشعبي ليس وليد اللحظة لكنه يأتي لتراكمات طويلة الأمد منذ نجاح الثورة الشعبية التي قامت بها الجماهير الإيرانية ضد نظام حكم الشاه السابق، وجاء أصحاب العمائم لكي يقطفوا ثمارها ويصادروها دون أن يكون لهم دور حقيقي مباشر فيها سوى توزيع بضعة أشرطة كاسيت تحتوي شعارات رنانة ووعود فارغة بأن خلاص الأمة الإيرانية من محنها يكمن في يد شيوخ الدين الشيعة، لكن تمخض الجبل فولد فأراً، حيث شهدت إيران منذ نجاح الثورة عام 1979 إلى يومنا هذا تدهوراً في كل شيء. تشير تقارير التنمية البشرية للأمم المتحدة للأعوام القليلة الماضية إلى أن الشباب الإيراني الذين تقع أعمارهم ما بين 14 عاماً و45 عاماً يشكلون حوالى 60 بالمائة من مكون الشعب الإيراني، ورغم أن الأجيال الأصغر هم أعلى تعليماً إلا أن معدل البطالة بين الشباب يزيد على 50 بالمائة، وهو يزيد على المعدل العالمي البالغ 16 بالمائة بأكثر من ثلاثة أضعاف. وهذا يدل على أن الاقتصاد الإيراني المتدهور غير قادر على استيعاب رأس المال البشري، وعلى أنه توجد تطلعات محددة في أوساط الشعب الإيراني نحو فرص أفضل في الحياة وفي المستقبل، فمن دون وجود فرص عمل ومساحة للتعبير السياسي، فإن التهميش والاضطراب يصبح مصدراً للاحتقان وعدم الاستقرار بشكل متزايد وعاملاً مهماً في ظهور التمرد، وربما الثورة الجديدة. إيران هي الدولة الأكثر اكتظاظاً بالسكان في المنطقة، والشعب الإيراني يدرك تماماً بأن بلاده ليست قادرة أو حتى مرشحة للهيمنة الإقليمية بغض النظر عن الشعارات والدعاية السياسية والإعلامية المضللة التي تطرحها النخبة الدينية - السياسية الحاكمة. الشعب الإيراني يعلم حقيقة بأن بلاده تعاني اقتصادياً حتى النخاع، ومؤسساتها الأمنية والقتالية لا تجاري ما يملكه الآخرون في المنطقة من تكنولوجيا متقدمة على الصعد الأمنية والدفاعية، دع عنك جانباً الآليات اللازمة للهيمنة الإقليمية. ومع الدفع بالصراع الإقليمي بشكل تدريجي نحو خطوط طائفية، يتضح بأن الدولة الإيرانية القائمة على الأيديولوجيا الشيعية الاثنا عشرية وولاية الفقيه ليست مؤهلة للهيمنة في منطقة تسود فيها أغلبية عربية سنية المذهب. وبعد مرور أربعة عقود منذ اندلاع الثورة، الشعب الإيراني برمته، ما عدا النخبة الدينية - السياسية ومن يدور في فلكها، يدرك، كما تدرك جميع الأمم الأخرى خارج إيران بأنه لا يوجد أي أمل في أن تقوم ثورة مشابهة لثورتهم في المنطقة العربية، فهذا أمر بعيد المنال. ومع ظهور ما سمي جزافاً بالربيع العربي، لم تتطور الأمور في دولة واحدة نحو تطبيق التجربة الإيرانية، ولم نر النفوذ الإيراني ينتشر بغير الوسائل العنفية والإرهابية التي تمارسها المؤسسات الظلامية التي تتسلل خفية وبأثمان باهظة ووسائل ملتوية في عدد من البلاد العربية، وتحديداً العراق وسوريا واليمن ومملكة البحرين الشقيقة. إن إدراك من هذا القبيل ينعكس في الشعارات المضادة التي يرفعها المتظاهرون الإيرانيون حالياً ضد نظامهم الحاكم الذي يقوم بالدفاع عن النظم التي تعاديها شعوبها كما هو الأمر في سوريا والمناطق التي يسيطر عليها فلول "الحوثيين" في اليمن. لقد أدركت عامة الإيرانيين بأن ممارسات النظام في البلاد العريقة هي هدر وتبذير لأموالهم التي هم أجدر وأحق بالاستفادة منها، فجاءت المظاهرات الحالية لإعادة الأمور إلى نصابها على الصعيد الاقتصادي والسياسي الداخلي وعلاقات إيران الخارجية. إن العالم الآن في انتظار ما سيحدث ويتساءل: هل الحاصل هو مظاهرات عابرة، أم هي ثورة أخرى جديدة ستشهدها إيران على مدى الأيام القادمة؟ *كاتب إماراتي