لم يعد للمنتدى الاقتصادي العالمي، المعروف باسم منتدى دافوس، البريق الذي ميزه لما يقرب من ثلاثة عقود بعد تأسيسه عام 1971. مؤتمره السنوي الأخير، الذي عُقد الأسبوع الماضي، بدا فاتراً، رغم أنه جمع نحو 70 رئيس دولة وحكومة فيما يشبه قمة عالمية غير مسبوقة. كان نجم منتدى دافوس قد صعد بسرعة بوصفه أكبر تجمع «رأسمالي» في مرحلة استقطاب أيديولوجي بين المعسكرين الغربي والشرقي، وأهم منبر للشركات الكبرى في مرحلة اختبار صعب لقدرتها على إقناع العالم بأن النظام الذي يقوم على حرية الاقتصاد هو الأفضل. صار هذا المنتدى بين المنتصرين في الحرب الباردة الدولية. اتسمت مؤتمراته التي تلت تفكك الاتحاد السوفييتي السابق ومعسكره بالفخر والزهو. غير أن لحظة الانتصار هذه كانت في الوقت نفسه بداية تراجع أهميته التي استمدها من موقعه في مرحلة الصراع الأيديولوجي. أخذ بريقه يخفت عاماً بعد عام عندما بات الخطاب السائد في مؤتمراته عالمياً. تقلص معارضوه الذين استمد أهميته من دوره في مواجهتهم، وباتوا محصورين في منظمات حافظت على رفضها النظام الرأسمالي، وأخرى أُنشئت في مواجهة العولمة وتحرير التجارة الدولية. كم أن المنتدى «المنافس» الذي جمع هذه المنظمات وغيرها، وأُنشىء في عام 2001، كان أضعف من أن يُمثَّل نداً له. كان اختيار مؤسسيه لاسم «المنتدى الاجتماعي العالمي» مقصوداً في سعيهم لأن يكون قطباً ثانياً في صراع جديد على عقل العالم. وضعوا «الاجتماعي» في مواجهة «الاقتصادي». وقلدوا المنتدى الاقتصادي العالمي عندما نسبوا المنتدى الاجتماعي في البداية إلى مدينة بورتو إليجري البرازيلية التي احتضنت مؤتمره التأسيسي، مثلما يُنسب المنتدى الذي سعوا لمنافسته إلى دافوس السويسرية. ولكن هذا المنتدى لم يستطع تقديم بديل متماسك يربط بين الإنجاز الاقتصادي والعدالة الاجتماعية. ولذلك لم ينظر المنتدى الاقتصادي العالمي إليه بوصفه منافساً، ناهيك من أن يكون نداً، ومضى في اتجاهه الذي لا يحفل كثيراً بالمسألة الاجتماعية التي فشل المنتدى الآخر في طرح رؤية متكاملة بشأنها. ولم تحظ هذه المسألة إلا بمساحة صغيرة في مؤتمره الأخير الأسبوع الماضي، رغم أن تقريره الأخير حول المخاطر العالمية أعطاها اهتماماً أكبر، بعد أن ازداد التفاوت الاجتماعي وبلغ مستويات خطيرة سواء بين دول العالم، أم داخل كثير منها. ورغم أن عدداً متزايداً من أبرز الخبراء الاقتصاديين في العالم، والذين شارك بعضهم في إعداد تقرير المخاطر العالمية، يرون أن الحد من هذا التفاوت ضروري لدفع معدلات النمو وتحسين الأداء الاقتصادي، واستقرار الاقتصاد العالمي، مازال المنتدى على موقفه الذي لم يتغير على مدى ما يقرب من نصف قرن. لم يعطِ منظمو مؤتمرات المنتدى اهتماماً كافياً لأجراس الإنذار التي دُقت في العالم في السنوات الأخيرة تنبيهاً إلى تفاقم التفاوت الاجتماعي، وتحذيراً من أخطاره. ومن أهمها كتاب عالم الاقتصاد الفرنسي توماس بيكيتي «رأس المال في القرن الواحد والعشرين»، الذي هز العالم عند إصداره عام 2014 لأنه نتج عن بحث عميق استُخدمت فيه مناهج إحصاء رياضية وأساليب قياس علمي حديثة، واستمر نحو عشر سنوات. ومع ذلك، شهد المؤتمر الأخير نقاشات مهمة حول الانقسامات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجه المجتمع العالمي، وكيفية معالجتها. ولكن الانقسامات الإثنية (العرقية والدينية والمذهبية) حظيت باهتمام أكبر من التفاوت الاجتماعي. كما أن القضيتين، اللتين احتلتا المساحة الأكبر، تهمان العالم في مجمله، الأولى مواجهة الأخطار الاقتصادية، ومتطلبات تحقيق الاستقرار اللازم لزيادة الاستثمار في عالم تجتاحه صراعات متزايدة، وكيفية رفع معدلات النمو بشكل مطرد ومستدام. والثانية تعزيز التعاون العالمي من أجل تأمين نمو شامل، والحد من الأخطار الاقتصادية. وكان حضور الرئيس الأميركي دونالد ترامب دافعاً لمناقشة مستقبل النظام التجاري العالمي، حيث تتبنى إدارته سياسة جديدة يخشى كثيرون أن تخلق حواجز اقتصادية. ومن أهم ما نوقش في هذا السياق كيفية تعزيز التعاون الدولي في ظل اتجاه صانع القرار في الدولة إلى تملك أكبر اقتصاد في العالم إلى سياسة حمائية. وكان خطاب ترامب من ناحية، وخطابا الرئيس الفرنسي ماكرون ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي من ناحية ثانية، بمثابة مناظرة غير مباشرة في هذا المجال. ومع ذلك، كان جديد مؤتمر المنتدى أقل مما يمكن أن يقدمه عندما ينفتح منظَّموه على قضايا غير مألوفة لديهم، ولا تنسجم مع خلفياتهم. *مدير مركز الأهرام للدراسات والبحوث الاستراتيجية.