بعد زيارة تاريخية استغرقت ثلاثة أيام، غادر فخامة الرئيس «شي جين بينغ»، رئيس جمهورية الصين الشعبية الصديقة، أراضي دولة الإمارات يوم السبت الماضي من مطار الرئاسة بالعاصمة أبوظبي. وحظيت هذه الزيارة باحتفاء واهتمام رسمي وشعبي كبيرين، حيث قام الجانبان بالتوقيع على 13 اتفاقية ومذكرة تفاهم مشتركة، تهدف إلى الارتقاء بالتعاون الثنائي بينهما إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية الشاملة، وإلى فتح آفاق جديدة للعمل المشترك في مختلف القطاعات. وفي أثناء رحلة العودة، حلقت طائرة الرئيس الصيني فوق عدد من الدول، يتوقع في غضون السنوات القليلة القادمة أن يتغير واقعها الاقتصادي بشكل كبير، ضمن ما أصبح يطلق عليه طريق الحرير الجديد، والمعروف رسمياً باسم «مبادرة الحزام والطريق» (Road and Belt Initiative). وتهدف الصين من هذه المبادرة إلى تشجيع وتحفيز التكامل الاقتصادي الدولي، من خلال الاستثمار في البنية التحتية للدول الأطراف، ومن خلال توسيع مدى وحجم التبادل التجاري بينها. ولتحقيق هذا الهدف، تنفق الصين حالياً حوالي 150 مليار دولار سنوياً في الدول الـ68 التي وافقت على المشاركة في المبادرة. ورغم أن العوائد الاقتصادية لهذه المبادرة تحظى حالياً بنصيب الأسد من الاهتمام الرسمي ومن التغطية الإعلامية، فإن الفوائد والتبعات على صعيد القضايا الصحية الدولية لا تقل أهمية هي الأخرى. فعلى سبيل المثال، في الوقت الذي يتوقع أن تستفيد البنية التحتية في باكستان من طرق، وسكك حديدية، وموانئ، ومحطات كهرباء، من تمويل صيني يزيد على 60 مليار دولار، ستمتد هذه الشراكة لتشمل أيضاً القطاع الصحي من خلال بناء وتجهيز عدة مستشفيات ومنشآت صحية، كما حدث العام الماضي مع بناء مركز طبي متخصص في الطوارئ والحوادث في ميناء «جوادر» الواقع على بحر العرب في الجنوب الغربي لباكستان. وتهدف الصين من هذا التمويل إلى تحسين ورفع مستوى الرعاية الصحية في منطقة تفتقر إلى رعاية صحية جيدة، وإلى شبكات مياه شرب ونظم صرف صحي فاعلة، كاشتراطات أساسية لمنع انتشار أوبئة الأمراض المعدية في المستقبل. وهو ما يندرج ضمن الاستراتيجية الصينية الرامية إلى دمج الرعاية الصحية ضمن الشراكات الاقتصادية في طريق الحرير. فالصين، وبخلاف كونها شريكاً فاعلاً ومهماً على جميع المستويات، وعدا عن كونها مساهماً رئيسياً في تمويل أنشطة وجهود منظمة الصحة العالمية في مختلف بلدان العالم.. فهي إلى ذلك تمتلك الخبرات الفنية والعملية الكبيرة، بالإضافة إلى الإمكانات الاقتصادية الضخمة، ما يمنحها القدرة على إعادة رسم الواقع الصحي، ليس فقط لصالح منطقة في باكستان، وإنما كذلك لصالح مليارات البشر القاطنين في عشرات الدول التي تشملها مبادرة «الحزام والطريق». فمن خلال الخبرة الصينية في توفير رعاية صحية مجتمعية، وتوفير مياه شرب نظيفة، وإيجاد نظم صرف صحي لقرابة 1.4 مليار صيني، تمتلك الصين المعرفة والقدرة على دعم نظم الرعاية الصحية التي تبنى عليها الأرضية اللازمة للازدهار البشري والنمو الاقتصادي. وهو ما يندرج ضمن مفهوم الطب المجتمعي، والذي يسعى في أبسط صوره إلى فهم الكيفية التي تؤثر بها الظروف الاجتماعية والاقتصادية على صحة الفرد والمجتمع، وعلى احتمالات الإصابة بالأمراض، وعلى الممارسات الطبية المختلفة. فمن خلال هذا الفهم، يمكن اتخاذ التدابير والإجراءات التي تمنح المجتمع مستوى أفضل من الصحة العامة، وتقي الأفراد من الإصابة بطائفة متنوعة من الأمراض الشائعة. وبخلاف طريق الحرير وحزامه، امتدت يد العطاء الصينية خارج الدول المشاركة، حيث كانت الصين دائماً سباقة لتوفير الاحتياجات الصحية في الدول المنكوبة ومناطق النزاعات والصراعات المسلحة. كما أن الإصلاحات والتطوير الذي نفذته الصين في نظام الرعاية الصحية، وأصبح بفضلهما نحو 95 في المئة من سكانها يتوفرون على تأمين صحي، تعتبر مثلاً يحتذى به من الدول الساعية لتوفير رعاية صحية مجتمعية شمولية لشعوبها. ومما لا شك فيه أن الصين نفسها تواجه تحديات صحية وديموغرافية خاصة بها، وعلى عدة جبهات. لكن يمكن للاستراتيجية التي تتعاطى بها الصين حالياً مع تلك التحديات، أن تكون هي الأخرى مثالاً يحتذى به من قبل الدول التي تواجه تحديات صحية مماثلة. ففي الوقت الذي توفر فيه الصين الدعم المالي الصحي لعشرات البلدان في آسيا وأفريقيا، يمكن لهذه الدول أيضاً أن تستفيد من الخبرة الصينية في مجالات عدة، وخصوصاً تلك التي تتعلق برفع مستوى الرعاية الصحية المقدمة لأفراد المجتمع قاطبة، وذلك من خلال نظام صحي شمولي، لا يأخذ في الاعتبار دخل الفرد، أو طبقته الاجتماعية، أو انتماءه العرقي.