يصعب أن تعطي طهران ردّاً واضحاً على الدعوة الأميركية إلى التحاور والتفاوض. لا شك أنها تريد تجنّب حزمة العقوبات الجديدة لكن التفاوض مع «الشيطان الأكبر» لا يختلف عن «كأس السمّ»، بحسب توصيف الخميني للموافقة على وقف الحرب مع العراق قبل ثلاثين عاماً. ذاك أن تهديدات ترامب وتحدّياته أشعرت النظام الإيراني بالمهانة، أما عرضه خيار التفاوض فبات الإيرانيون يعرفون عنه ما يكفي لإشعارهم أيضاً بالمهانة. إذ أن الوسطاء الذين حملوا أفكار طهران إلى واشنطن ما لبثوا أن عادوا منها بردود لم ترنّ إيجاباً في آذان النظام ولم تتقاطع مع توقّعاته. كل ما في الأمر أن الإدارة الأميركية الحالية لا تتعامل مع إيران بغير اللغة التي اعتمدتها الإدارة السابقة، لذلك يغتاظ الإيرانيون ويعيّرون أميركا بأن لا سياسة ثابتة لديها، وقد سبقتهم دول أخرى خصوصاً عربية إلى هذا التغيير، بل إن تكتشف أن عدم الثبات هو القاعدة في السياسة الأميركية.
أما الثبات فيعني للنظام الإيراني أن لا يحيد عن سياساته وأهدافه، مهما كانت تخريبية وخاطئة في المدى المنظور، وحتى لو تطلّبت على المدى الطويل قدراتٍ أكبر من قدرات إيران للحفاظ على نتائجها، بل يعني الثبات انتظار مجيء إدارة مثل إدارة باراك أوباما مهيّأة لـ «الإعجاب» بإيران، وللتعامي عن مغامراتها وممارساتها، وللانخداع بمهاراتها التفاوضية، لتوقّع معها بشهادة خمس دول أخرى على اتفاق يتيح تجميد تخصيب اليورانيوم مع إبقاء البرنامج النووي الإيراني نشطاً وجاهزاً لاستئناف العمل به بعد عشر سنوات، من دون أن يتضمّن ذلك الاتفاق تعهّداً إيرانياً بعدم السعي إلى حيازة سلاح نووي. ولكي تعوّض إيران على هذا التأخير يتاح لها بناء منظومة صواريخ باليستية قادرة على تهديد المنطقة، وإذا برزت استنكارات لهذه المنظومة تتسابق الدول الموقّعة على الاتفاق النووي إلى تبرئة طهران من تهمة الإخلال بتطبيق الاتفاق، حتى أن هذه الدول لم تتفق في بينها حتى الآن على ما إذا كان بعض بنود الاتفاق يحرّم الحصول على هذه القدرات الصاروخية.
بمعزلٍ عما إذا كانت سياسات ترامب العربية عدوانية كما في اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، وغير متوازنة في طرحه ما تسمّى صفقة القرن، وغير منصفة في مقاربتها للأزمة السورية، وغير واضحة بالنسبة إلى الأزمة اليمنية، وأقرب إلى الخبث والغموض في التعامل مع «الإسلام السياسي» والتلاعب به وعليه. فهذه تبقى خلافات عربية - أميركية بعضٌ منها مزمنٌ ولا يمكن أن تحلّ إلا إذا أقدمت واشنطن من جهة على ترشيد انحيازها إلى إسرائيل في توجّه سلمي حقيقي، ومن جهة ثانية على تصحيح مفاهيمها الملتبسة للعلاقات مع العالم العربي ومكانته الإقليمية.
لكن أي تدقيق في سياسات إيران سيتوصّل إلى أنها بدّدت كل الفرص التي يضعها حسن روحاني حالياً تحت عنوان «تصحيح» العلاقات مع العرب، فمن يمعن في التخريب لا يتأهل للتصحيح بمجرد إبداء الندم. والأكيد أن التفاوض مع أميركا، كما يتوجّس منه الإيرانيون، هو دعوة إلى «تغيير السلوك»، أي إلى تغيير السياسات: من التخلّي عن العقدة الأيديولوجية المتعلّقة بأميركا، إلى تقليص الطموح النووي باتفاق جديد واضح، إلى تهدئة الجموح الإمبراطوري والاكتفاء بـ «مصالح» تتناسب مع إيران طبيعية وعادية، إلى الاصطفاف مع أميركا في استراتيجيتها الآسيوية.
ثمة حوافز ومكاسب مقابل هذه التنازلات المطلوبة في المسار التفاوضي مثلما أن هناك صعوبات وخسائر كثيرة في مسار المواجهة، وقد اختبرت إيران كيف أن دخول نفق العقوبات أسهل من الخروج منه، خصوصاً أن انعكاساتها الداخلية باتت ملموسة ومؤذية للغاية. وبطبيعة الحال فإن الخيار ليس يسيراً نظراً إلى أن إيران تكلّست في السياسات التي اعتقدت أنها لا تأتها إلّا ب «الانتصارات» ولم تعد قادرة على استباق العواصف أو التحكّم بوجهتها. لا تزال لديها أوراق تلعبها بدم شعوب أخرى لكنها اكتشفت لتوّها أن الخطط التي اتّبعتها لن تؤدّي إلى النهايات التي تخيّلتها.
*محلل سياسي- لندن