بدأت تكثر المدارس والجامعات التي تدرس باللغة الإنجليزية وتتبنى المناهج الأنجلوساكسونية في دول المغرب العربي وبخاصة في المملكة المغربية، ونجد أن العديد من الآباء والأمهات يرسلون أبناءهم إلى دول مثل بريطانيا وسويسرا وكندا والولايات المتحدة الأميركية بدلاً من فرنسا، دولة الاستعمار التي تركت إرثاً ثقافياً ولغوياً متجذراً. كنت أظن أن المسألة منحصرة في دولنا، إلا أنه بعد عشاء جمعني مع جون مارك سيلفستر، وهو واحد من الاقتصاديين الفرنسيين الكبار وأحد عمالقة الصحافة الفرنسية في فرنسا وأوروبا، فهمت أن المسألة تتعدى الحدود المغاربية، لأنه حتى أبناء النخبة الفرنسية يرسلون أبناءهم إلى الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا بما فيهم النخبة التي تخرجت من مدارس القناطر والمعادن أو تلك التي تخرجت من المدارس الوطنية للإدارة، وهي التي تسير المؤسسات الوطنية الفرنسية بجميع أشكالها، وتأخذ المناصب الحكومية، بل وحتى منصب الرئاسة.
المهم من هذا الكلام أن الجميع يؤمن بقوة وصلابة المنظومة التربوية والتكوينية والبحثية والشواهد العليا التي تعطيها المدارس والجامعات الأنجلوساكسونية، لهذا بدأ الجميع يتهافت عليها ويؤمن بمستقبل شواهدها بما فيها البيئات المغاربية التي عاشت منذ عقود مَخاض التجاذب بين عدة خيارات متقابلة، وداخل ثنائيات متنازعة، تجعل منها في بعض الأحيان ثقافات تلفيقية، عديمة الوحدة والتناسق، عاجزة عن الحسم في الانتماء لعصرها، متردّدة بين تنازع القيم. هذه الثنائيات التي سمّاها البعض (ازدواجية) حين قال: المشكل الذي يواجهنا وتعانيه ثقافتنا هو مشكل الازدواجية التي تطبع كلّ مرافق حياتنا المادية والفكرية، لا، بل المشكلة في الحقيقة هي ازدواجية موقفنا من هذه الازدواجية نفسها.
ويعلم الجميع أن الدول المغاربية والعديد من الدول العربية كانت ضحية الاختراق الثقافي أو الهيمنة الثقافية، والتي تهدف إلى الاستيلاء الثقافي على الطرف الآخر، ونشر ثقافة الطرف المهيمن، وتقويض أسس الثقافات المحلية، هذا هو الهدف الظاهر للهيمنة الثقافية، ولكن الهدف العميق للهيمنة، هو تعطيل العقول في ثقافة معنية عن الإبداع. ويكفي الرجوع إلى مسألة الفرانكفونية التي تترك وما تزال آثاراً على النسيج اللغوي والاجتماعي، بل والاقتصادي والثقافي على دول المغرب العربي الثلاث. فالرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتيران، كان قد شرح مفهوم الأيديولوجية الفرانكفونية، عندما أكد: «أن الفرانكفونية ليست هي اللغة الفرنسية فحسب. إننا إذاً لم نتوصل إلى الاقتناع بأن الانتماء إلى العالم الفرانكوفوني سياسياً واقتصادياً وثقافياً، يمثل قيمة مضافة، فإننا سنكون قد فشلنا في العمل الذي بدأناه منذ عدة سنوات..‏!»?، فالفرانكفونية ?عنده، ?ليست ?في ?اللغة ?الفرنسية، ?بل ?هو ?ذاك ?الاختراق ?الثقافي، ?أو ?هو ?ذاك ?الانغماس ?في ?تجربة ?الآخر ?سياسياً، ?اقتصادياً، ?ثقافياً، ?وهو ?ما ?يعني ?التبعية ?المطلقة ?وليست ?النسبية.
وبهذا الخيار الثقافي الاستعماري نجحت فرنسا في مسح الشخصية الثقافية واللغوية للمجتمعات الأفريقية التي استعمرتها، ويكاد لا يوجد اليوم مجتمع أفريقي باستثناء المغرب العربي، لا تمثل اللغة الفرنسية لغته الوطنية الجامعة، والشواهد على ذلك اليوم وافرة، يكفي أن لسان فرنسا مازال حتى الآن، لسان الإدارة في هذه البلدان، ولسان التعليم فيها من الطفولة حتى الكهولة، والرأسمال الأمثل لتنمية الموقع الاجتماعي.
وإذا كنت من أولئك الذي يؤمنون بمسألة التعدد اللغوي في عولمة يجب أن يكون معمروها مسلحين بكل الأدوات التي تسمح بجعلهم قيمة مضافة للناتج المحلي الإجمالي لدولهم، فإنني أرى أنه من المسلمات اليوم أن تتوجه المنظومات التربوية والتكوينية واللغوية في دولنا إلى أن تكون اللغة الإنجليزية هي اللغة الثانية بعد اللغة العربية، للأسباب التي ذكرتها سابقاً، ولكي نمكن أبناءنا من الحصول على درجة عالية من التكوين ونمنحهم آليات البحث والابتكار والقدرة على التنافسية والبقاء في عالم لا يرحم.
صحيح أن بعض النقاشات العمومية التي تنشب حول التعدد اللغوي تكاد تنحرف إلى مسارات إيديولوجية منغلقة بل وحزبية إقصائية. والحال أن الفرنسية، كما كانت الإسبانية طيلة مائتي عام بالنسبة لمعاملاتنا الدبلوماسية والتجارية، هي لغة انفتاح وتواصل ولا يمكن التفريط فيها الآن، وقد أصبحت رأسمالاً ثابتاً للمغاربة والمغاربيين رغم أن فرضها كان بفعل حادث سلبي، هو الاستعمار، ولكن هذا لا يجب أن يمنعنا من تبني استراتيجيات واقعية تنظر إلى الواقع، وتمكن من التوفيق بين هذه المعطيات، وتمنح الأولوية لسياسات فيها صلاح الشعوب والأوطان.