على الرغم من أنني لا أحبذ حضور يوم الافتتاح لأي معرض أو مهرجان أو ملتقى أو بينالي فني أو ثقافي أو فعالية تمتد لأيام، لأنه يوم يكون للتغطيات الإعلامية التي تعتمد على نشر خبر يتيم عن الافتتاح أو يكتفي المحرر بما أنجز، وأرضى مديره الموظف - لا الإعلامي- وهو يوم يكون للمزدحمين عشاق الصور، وهم فئة تخصصت حتى غدت محترفة في سرقة الكاميرا- كما يقول الفنانون- إلا أن المستثنى من ذلك كله، معارض الكتاب، ومعرض أبوظبي للكتاب بالذات، لأنه ارتبط بنا وارتبطنا به، فيه فرح يفرضه وجود هذه الوجوه العربية التي تطّل علينا من خلاله، والرؤوس التي نفخر بها، ونلتقيها فيه، يفرحون لنا وبنا، نتكئ عليهم فيعضدونا، جذلون بلقائهم، ولقياهم· كلما أقيم معرض للكتاب، أتذكر بداية القراءة الأولى، وكيف تسللت مع الزمن حتى غدت جزءاً من طعام اليوم، جزءاً من طقس اليوم، جزءاً من عادة أتمنى عدم الفكاك منها، وإن وَهَن النظر، لأن القراءة هي التي دفعت بي إلى وهج الحرف، والاحتراق قبل عشرين عاماً بجذوة الكتابة أو شرر القلم أو قبس النون، وألق القاف، كانت القراءة هي الحادي دائماً، هي التي زجت بي في بحور الأسفار، والذهاب بعيداً، وعميقاً في الأشياء، حتى وصل حد التورط، لم تكن القراءة ميسرة، لا كتب للأطفال، ولا أخرى للراشدين، لا مكتبات، ولا أرفف للمجلات، لا صحف بهذا الحجم، ولا سهولة المواصلات أو الاتصالات، كنا نبحث عن الكتاب، ونقرأه متهالكاً، والمجلة تصل إلينا بعد أن فقدت ربع ورقها، وانمحى بعض حبرها، كنا نبحث عن أوراق مدنسة بالأحبار والأفكار، ولو طوينا فيها الخبز أو حملنا فيها السكر، كنا نبحث في مكبّات مستشفى كندي القديم، والبريد القديم ''البرستي'' ومعسكر جيش تي·أو· إس في الجاهلي، كنا نركض وراء ورقة تطيرّها الريح من مكان إلى مكان أو نفك تلك القصاصة التي اصطادها شبك، مثل طير مهاجر أو التصقت في جدار أو منعتها شجرة، وخلصتها من طول الأسفار أو نشبت في رمثة برية أو سحبها السيل ولاثت في شجرة أشخر قبل ان تحرقها شمس النهار· هكذا كانت مشقة القراءات الأولى، تعب الهرولة وراء وهج الحروف، ومسطحات الورق، وبين رحلة النون والقاف، وما يسطرون، استقرت النفس الأمّارة بالقراءة والكتابة، مستشعرة حالاتها الأولى، وفرحها السرمدي، كانت الكتابة على جدران الطين والجص والنورة، متنفساً طفولياً لرؤى أحلام، كان يسّربها لنا المذياع القديم الرابض كأسد هرم في ركن البيت الطيني أو ذلك العجوز العدني بصف أسنان الذهب الذي زار بحار العالم، ويعرف عن ثورات، ومستنقعات ثوار، وشياطين مثل جيفارا· مجلة الحائط، إذاعة المدرسة، التجارب المسرحية، العبث بالطين واللون والخشب، مداعبة أوتار النغم، كلها طرق كانت تتوزعني، وتوزني عليها القراءة، وفي يوم زجت بي إلى نفق الكتابة، التي كانت تتراءى لي مرة، لينة طيعة، كصلصال لم يتكون بعد، ومرة كعود سمر أكلته الشمس حتى قسى، ومرة كسراب لال، وأخرى كشق فجر نديّ· هكذا تبدو الأسئلة الصغيرة، موجعة للرأس أحياناً، غير أن بها لذة المعرفة، والتذكر الأول للأشياء الجميلة، التي ساهمت في العجن والتكوين، وهذا السفر البعيد والكبير· معرض أبوظبي الدولي للكتاب·· في مكانه الجديد والجميل·· أهلاً وسهلاً·· فثمة أشياء لا يطّهرها مثل الكتاب ومثل القلم وما يسطرون··