يُعرف عن الإنسان العربي هوسه في الكتابة أكثر منه في القراءة! فنحن نكتب الكثير ونقرأ القليل! لذا تأتي الكتابة على حساب الفكرة والأسلوب، والعبارة، ويأتي النص أقرب إلى الخواطر السطحية الذاتية منه إلى الأفكار الموضوعية· منذ نعومة أظفارنا، نتورط في كتابة الخواطر والتعبير عن المشاعر، وتدبيج الرسائل والمعلقات الإنشائية، ومع الأيام تتحول المشاعر إلى شعر يراد به أن يملأ بريد القراء في الصحف أو بعض الصفحات الثقافية أو مجلات الحائط المدرسية والجامعية· الجنوح إلى الكتابة، لا يعيب صاحبه، إذا ما كان جزءاً من جنوح نحو الثقافة، بالقراءة والاستماع والمشاهدة والتأمل وحضور الأمسيات والندوات وربما السفر والمؤتمرات والمعارض ومعرفة الشعوب والاطلاع على ثقافاتها ودياناتها وتراثها، لكن المطلوب أن لا يكون الأمر كثيراً من الحبر وقليلاً من الفكر، فالمقال لا يأتي على حساب المقام، بل يخدمه ويغنيه بالوعي والعمق، وبالمعنى والمبنى· إن القراءة هي الأصل، لأنها التزود بالوعي والمعرفة، لذا أود لو يظل شعار المعارض العربية السنوية للكتاب: أمة تقرأ·· أمة ترقى قابلاً للتعميم والانتشار عندما يكون المعرض نفسه قابلاً لذلك الاتساع والمدى ومد الجسور نحو الذات ونحو الآخر· ظل الكتاب العربي يجتاز الحدود السياسية للوطن العربي الكبير بصعوبة بالغة، مثلما يتنقل المواطن العربي الصالح والذي يحمل وعياً وفكراً مستنيراً من بلد عربي إلى آخر بمعجزة إلهية، فهناك مزاج الرقيب العربي، والجمارك العربية والمكاتب الصغيرة الباردة التي تقدر أن تفسر المغلق من الكلام وتستطيع أن تفصّل التهم على المقياس وتحدد الانتماءات· مثل هذه المعارض تضع بين يدي القارئ العربي الجديد مما تنتجه المطابع، والجديد من الفكر والفن والعلوم والآداب والترجمات والتراجم، وهي فرصة مهيأة للتوسع في قاعدة قراء العربية، هذه اللغة، الهوية التي تعرّف العالم بنا والتي يجب أن نتمسك بها ونعض عليها بالنواجذ، كما قال الأقدمون، رغب من رغب وكره من كره، فالعربية هي خندقنا الأخير، هي هويتنا، وهي طوق نجاتنا من الذوبان في حركة الإعلام والعولمة والكوكبة، المتجهة نحو صهر الكيانات والأعراف والأجناس واللغات، وجعل الشعوب شعوباً شبه أمريكية وشبه مهاجرة، تتحدث بلغة واحدة وتفكر بطريقة واحدة وتتنفس بطريقة واحدة ومن منخار واحد· جميلة فكرة مثل هذه المعارض السنوية والتي رسخت في الذاكرة نتيجة تراكم تجارب وتقاليد امتدت طوال سنوات طويلة، جميلة حين ظهر الكتاب العربي في أبوظبي لأول مرة دون أن يراه الرقيب، كانت فكرة نيّرة انبثقت من صرح ثقافي نكبره ونعتز به وبدوره الخلاق، كوجه حضاري للإمارات، فقد أزاح من طريق الكتاب ومن طريقنا وعن وجوهنا ذلك الرقيب الذي ما يلبث جالساً، حارساً للحدود، يتصيد العقول المنفتحة والأفكار النيرة، يعشق كتبه الصفراء، يتعطر بالكافور وجوز الطيب، ويظل طوال نهاره يستاك بمسواكه، ويلوك لسانه سيَر الناس المخالفين له في الطريقة وفي فهم الحياة واستجلاء الأمور الإنسانية، وأن الدنيا ليست دوماً جالسة على ثلاث من الأثافي والرجس العظيم: الدين والسياسة والجنس· لنقرأ قبل أن نكتب، وأكثر مما نكتب، لأن القراءة الجيدة تفضي إلى الكتابة الجيدة، والأهم منها إلى الوعي والمعرفة وفهم الحياة بكل ألوانها وأطيافها الجميلة·