يتابع ابن سهل في موشحته قائلاً: “ذهَّبت دمعي أشواقي إليه / وله خد بلحظي مُذهبُ/ ينبت الورد بغرس كلما / لحظته مقلتي في الخُلَسِ” أي أن خدود الظبي المحبوب قد جعلت دمعي يقطر بحمرة ذهبية، وذلك من فرط اشتياقي إليه، فكأن الدمع قد امتزج بالدم، ولما فعلت بي ذلك خدوده أخذت بثأري منها فرميت إكسير طرفي إليها فأعادها ذهبا نضارا، وهذا نظير ما سيقوله ابن نباته المصري بعد ذلك :ـ “يا غزالا رنا، وغصنا تثني / وهلالا سنا، وبدرا أنارا كان دمعي علي هواك لُجينا / فأحالته نار قلبي نضارا” وكان العرب يعتقدون في الكيمياء أن هناك إكسيرا أو حرارة تجعل الفضة ذهبا، فالشاعر يتصور أن الأشواق قد جعلت دمعه ذهبيا، وأن نظرته قد حولت خد المحبوب إلى اللون الذهبي أيضا، وإن كان هذا أقرب منالا لأن حمرة الخجل والحياء قد تفعل ذلك في الواقع المنظور، والبيت الثاني يؤكد هذا المعنى لأنه يشير إلي خد المحبوب إذا سرقت النظر إليه أنبت الورد فيه، وذلك كفاية عما يلحقه من الخجل إذا نظر العاشق إليه، وفي مثل ذلك كان ابن دريد يقول: “يصفرّ لوني إذا تأمله / طرفي ويحمرّ خده خجلا حتى كأن الذي بوجنته / من دم خدي إليه قد نقلا” ويحكي الإفراني شارح موشحة ابن سهل في استطراداته الشائقة أنه قرأ في كتاب المراتع للشمس النواجي وأظنه مفقود “قال إسحق بن ابراهيم الموصلي دخلت يوما على الرشيد، وبين يديه ورد أحمر وأبيض وهو يخلطه بقضيب كان معه، وقد أهديت له جارية حسناء بديعة الجمال، حاذقة أديبة، وكان له شغف بها، فقال لي: يا إسحاق؛ قل في هذا الورد شيئا، فقلت: سمعا وطاعة، ثم أنشدت: “كأنه وجه محبوب يقبله / فم الحبيب وقد أبدى به خجلا” ثم ينقل الشارح في المفاضلة بين الورود والخدود أبياتا طريفة لتميم بن المعز: “ورد الخدود أرق من ورد الرياض وأنعم هذا تنشقه الأنوف وذا يقبّله الفم فإذا عدلت فأفضل الوردين ورد يُلثم لا ورد إلا ما تولى صبغ حمرته الدم سبحان من جعل الخدود شقائقاً تتنسم وأعارها الأصداغ فهي بها شقيق مُعلم” وهنا نلاحظ أمرين، أولهما أن الشاعر كان يسبق عصره؛ إذ ينتصر للإنسان على الطبيعة، فيعدل كفة الميزان التي مال بها الشعراء الآخرون فأسرفوا في الحديث عن الألوان والعطور وغفلوا عن نبل الإنسان وقداسة الحياة فيه، أما الأمر الثاني فهو هذا الحسّ العارم لدى الأدباء العرب بأنهم لا يقربون الفحش إذا تغنوا بالجمال ورووا مآثر الأسلاف من عشاق الفن والأدب ونوادره الطريفة الماجنة أحيانا، فوراء كل ذلك حس ديني يسبح بحمد الله ويشكر الخالق على هباته وأنعامه، مما يعطي درسا لمن لا يحسن فهم التراث العربي ويحسبه أحادي المنظور في الزهد والتقوى، غير عابئ بما يمتلئ به من حب الحياة العارمة والأشواق التي تجلوها موشحة ابن سهيل.