الذاكرة لا تصنعها الصدفة ولا يبنيها الفراغ، وبالتأكيد لا يرعاها الغريب ومن لا ينتمي إليها، الذاكرة هي التاريخ الذي حمل كثيراً من أرواحنا وأيامنا، أصواتنا وحركاتنا عبر تفاصيل الوقت، الذاكرة هي عمرنا الذي صرنا أمامه وصار بداخلنا، كبرنا في الذاكرة، تعلمنا بها، أحببنا وتعذبنا وعرفنا الكثير من الأصحاب والأصدقاء، منهم من عرف قيمة الذاكرة ومنهم من تساقط من سلة العمر لأسباب لم يكن وحده مسؤولاً عنها. من كان بلا ذاكرة فهو بلا ظل، بلا اسم، بلا جذور، ولذلك يحاول البعض أن يؤلف لنفسه ذاكرة يستظل بها أمام عري الحياة كي لا يبقى عارياً طيلة العمر، بعضهم يغير اسمه وبعضهم يشتري ذاكرة وتاريخاً عائلياً، فقط ليشعر بأنه جزء من هذا الذي يحيط به، إنها صعبة وخانقة هذه الذاكرة. المدرسة جزء من ذاكرتنا جميعاً، المدرسة ليست الجدران والفصول والمقاعد واللوح الأسود وغرفة المدير أو المديرة، إنها العمر الغض والأصحاب واللهو والشقاوات التي بلا نهاية، إنها النجاحات والإخفاقات وأول أبجدية الحلم والأمنيات. حين أنظر للمدارس التي تعلم فيها جيل كامل من أبناء دبي واشتغل بالتعليم فيها جيل بدأ أول مشواره في العمل والكفاح، ثم أجد ما طرأ عليها من تغييب وإخفاء أتساءل عن مدى منطقية هذا الذي يحدث بحق الذاكرة وبحق تاريخ جيل وتاريخ بلد. نحن مجتمع ينمو ويتقدم ويسير قدماً للأمام بإرادة جيدة ورغبة في التطور نحو الأحسن، ومن طبيعة هذه المجتمعات الحديثة انبهارها بمشاريع الحداثة والتغيير، فنجدها تبني وتهدم وتعمر وتزيل وتضع وترفع وذلك دليل عنفوان وحيوية، لكننا نعلم أيضاً أن الذاكرة هي الجزء الأهم في بناء هذه المجتمعات، وأن الحفاظ عليها ثروة بحد ذاتها تضاف إلى رصيد إنجازاتها العمرانية والثقافية، فلا مجتمع إنساني بلا ذاكرة، بلا جذور ومرجعيات، ذلك أن تحضر المجتمعات يتكون بتراكم الفعل والإنجاز الإنساني عبر الزمن وعلى الأرض، والذاكرة جزء من هذا وذاك. إن هدم مدرسة يمكن أن يحدث لأغراض تجميل وتطوير المدينة لكنه بالمقابل يشكل اغتيالاً معنوياً لذاكرة جيل بأكمله تعلم في هذه المدرسة كما إنه اغتيال لجزء من ذاكرة المدينة، وقد كنت أتجول في حينا القديم منذ عدة سنوات فلمحت لوحة كتب عليها «المدرسة الباكستانية » على بوابة مدرسة الاتحاد الثانوية للبنات بدبي، المدرسة الثانوية الأولى في المنطقة والتي حملت اسم الاتحاد، وشهدت تعليمنا وعملنا فيها بعد التخرج منتصف الثمانينيات وصداقاتنا وجزءاً حلواً من أعمارنا، لذلك سقطت من عيني دمعة حارقة لحظتها ثم كتبت مراراً عن هذه الواقعة لأنها تركت أثراً عميقاً في قلبي، (لا أدري فيما إذا كان الوضع على حاله إلى اليوم أم تغير؟). هناك سور وهمي نتخيله يحيط بحينا عندما كنا صغاراً، نتخيل أننا محصنين ببيوتنا وأصوات أمهاتنا وأصدقاء اللعب والبحر والناس الذاهبين والقادمين في فسحة النهار بين البيوت والأزقة، نتصور البيوت كبيرة جداً والمدرسة بلا حدود، هناك أوهام كثيرة تعيش معنا كل العمر، وحين نكبر إلى حدود الانكشاف والاكتشاف نفهم معنى خداع البصر ونضحك كثيراً، لكن الذاكرة ليست وهماً أبداً، إنها حقيقتنا الثابتة، لذلك لا نضحك أبداً حين نكتشف أن أحداً صادرها منا في لحظة خاطفة. ayya-222@hotmail.com