ما نعيشه اليوم سيكون تاريخاً في الغد، سيدون وتمتلئ به الكتب، وسيدرس لطلاب المدارس بصيغة الماضي و«حدث في مثل هذا اليوم» نحن نشهد ونواكب تاريخاً يتكون، يتأسس، ويتراكم، وما التاريخ سوى: ثورات، وقيام ممالك وإمارات وبزوغ دول وانفصال أخرى، ما التاريخ سوى دول كبرى تتهاوى، ودول جديدة تظهر لتسود لفترة ثم تلحق بأختها، ما التاريخ سوى عاش الملك مات الملك، بالأمس كان القذافي يملؤ الدنيا صراخاً وعنجهية ومؤامرات واليوم تمتلئ ليبيا بعد رحيله بالصراعات والطوائف المتناحرة، وبالأمس كان «فلان وكان علان»، وتلك الأيام نداولها بين الناس !
في الإعلام أيضاً مشهد يسقط وآخر يتكون، والفوضى العارمة التي تضرب مشهده اليوم لا تدعو للترحم على إعلام الديكتاتوريات الماضية، أو لا يجب أن تُربط به حتى لا يصل التحسر على زمن الديكتاتور نفسه، في الحقيقة فإن الإعلام مرآة للواقع، مثل السياسة والفن والعلم و...إلخ، ومثلما كما تكونوا يولى عليكم، كذلك فمثلما تكونوا يكون إعلامكم، إن كنتم متحضرين مستقرين فإن الإعلام سيكون كذلك والعكس صحيح، لا يمكن لدولة منهارة أن تحوي مشهداً إعلامياً متماسكاً واحترافياً ذلك أمر غير مقبول منطقياً، كما لا يمكن لدولة بصلابة وديمقراطية ألمانيا، مثلاً أن تنتج إلا إعلاماً قوياً ومحترماً ومحترفاً أيضاً، الأمر لا يحتاج لكثير من الحكي والجدل فيما يخص هذه الحقائق والمسلمات.
لماذا نستغرب الفوضى الإعلامية التي يعيشها معظم بلدان عالمنا العربي اليوم؟ لماذا نستنكر اختلاط الحابل بالنابل إعلامياً في مصر والعراق وتونس ولبنان وليبيا و... إلخ ؟ ألا يبدو الأمر طبيعياً بعد كل الهزات والفورات والثورات التي مرت بها هذه البلدان ؟ لقد فقد صحفيون حياتهم في ظروف غامضة ومات كثيرون أمام أعين العالم، وأختطف بعضهم وأقيل آخرون وسجن كثيرون وفي لبنان والعراق كان تفجيرهم بالقنابل أمراً مقصوداً لإيصال رسائل محددة، الصحافة أول من يدفع الثمن حين يختل الأمن في أي مكان، والصحفيون ضحايا في مناطق الحروب والصراعات، أما حرية الإعلام فتلك كبش الفداء الأول بلا تردد.
العالم العربي كان يحلم بالحريات، وحين تفجرت الثورات اعتقدنا بأن المسافة بين الحرية والإعلام أصبحت قصيرة جداً، وأنه بمجرد أن ينجلي غبار أقدام الثائرين والمتظاهرين في الشوارع والميادين ستزدهر الصحافة وتنعدم الرقابة، ويعم الوعي، ونسينا أن ممارسة الحرية بوعي وحرص مسألة زمن وتراكم في التجربة والخبرة، وأن المسألة بحاجة لترسيخ مفاهيم عميقة وكبيرة ولأن يقتنع الناس بها وأن يحولوها إلى فقه تعامل وليس مجرد فقه ثرثرة وصراعات على الشاشات والفضائيات !
إن فوضى المشهد الإعلامي العربي اليوم نتيجة طبيعية لما يمر به الوطن العربي، وهو يأخذ كثيراً من سمعة وعمر وتنمية هذا الإعلام وتطوره، لكنه في نهاية الأمر فوضى متوقعة وطبيعية كتحصيل الحاصل تماما، لكن إذا كان الإعلامي البراجماتي الممارس لمهنته بشكل يومي واعتيادي لا يلتفت للأمر فإن على المراقبين والمنظرين وأهل العلم والمعرفة أن يراقبوا المشهد ويخضعوه لكل أدوات التجربة والملاحظة العلمية الدقيقة، لأن ذلك ما سوف يقود لدراسات ومقارنات ونقاشات جدلية تصب في خدمة المشهد الإعلامي العربي وتطور منسوب الحرية واحترافية الصحفي وتماسك منظومة القيم والأخلاقيات المرتبطة بكل ذلك.


ayya-222@hotmail.com