غريب أمر الإنسان مع نفسه، غريب تمرد الإنسان على طموحه أحياناً وعلى رغباته، والأغرب احتياجاته أحياناً حين يكون قد بلغ من الاكتفاء والمجد والعنفوان مبلغاً يحسد عليه• يسعى الإنسان إلى العمل فيجده، وعندما يرتقي فيه إلى أعلى الدرجات، يتطلع إلى أفق آخر•• ثم آخر، إلى الشهرة حيناً، وإلى الراتب الأعلى حيناً، وإلى النفوذ والثروة الضخمة في أغلب الأحيان•• وحين يجد كل ذلك، يقول: أشعر بأن شيئاً ما ينقصني، فأنا لا أشعر بالسعادة؟ لماذا؟ هو لا يعرف على وجه التحديد، وفي الحقيقة فلا أحد يعرف غيره، لكنه لا يريد الإمساك بطرف الخيط لأسباب مختلفة• يخرج الفتى من قريته الصغيرة الهادئة ميمماً صوب صخب الحياة وضجيج المدينة، يحلم بالنساء الجميلات المختلفات تماماً عن نساء قريته الكئيبات، يحلم بالشوارع المضيئة طوال الليل، وبالمقاهي التي لا تغلق أبوابها أمام مرتاديها أبداً، يحلم بالبنايات الشاهقة، وبالتليفزيون الملون الديجيتال، وبالموبايل آخر طراز، وبالمطاعم اللامعة، وبكل شيء لامع، وحين يدخل في قلب المدينة ينظر خلفه، فإذا بالقرية قد ابتلعتها المسافات وإذا هو في جوف الليل أو في جوف التنين، هو في جوف المدينة، ولا شيء يلمع فيها سوى نظرات الراغبين في المزيد، ويقول الفتى لنفسه: لماذا يريدون المزيد، ماذا ينقصهم؟ ولا يعلم أن ما ينقصهم ببساطة هو ما يريدونه بالفعل، هذا الذي لا يعرفونه ولا يعرفه هو، ولذلك سيصل يوماً للسؤال ذاته: ماذا أريد أكثر؟ ماذا ينقصني؟ لا ينقصني شيء ، إذن لماذا لست سعيداً؟ في رواية “ الظهير “ للكاتب باولو كويللو ، تقرر الزوجة والتي تعمل صحفية أن تكون مراسلة حربية وسط ذهول زوجها الذي سألها عن السبب في هذا الخيار، والذي صعق حين كان جوابها•• لنقل إنني أريد أن أكون وحدي، وحين لم يقنعه جوابها سألها: (هل قصرت معك في شيء؟ أو لم تحصلي على ما تحتاجينه؟)، فكان جوابها: (هذا بالتحديد هو لب القضية، امتلاك كل شيء•• مع ذلك فأنا لست سعيدة، ولست الوحيدة في هذا الشعور، لقد التقيت على مر السنوات بمختلف أنواع البشر، وأجريت مئات المقابلات معهم، الغني، الفقير، القوي، أولئك الذين هم في اكتفاء•• قرأت المرارة اللامحدودة نفسها في عيونهم جميعاً، تعاسة لا يكون الناس دوماً على استعداد للاعتراف بها، لكنها بغض النظر عما كانوا يقولونه ويتفوهون به، كانت دوماً هناك، في دواخلهم وبوابات عيونهم)، وبشكل مفاجئ سألت زوجها: (هل أنت سعيد؟)، وبشكل تلقائي أجابها: (لا أدري)!! في الآونة الأخيرة دخلت في نقاشات كثيرة، مع أناس مختلفين، صديقات، زملاء عمل، أفراد عائلتي•• صغار، كبار، مراهقين، ناضجين، كلهم يجمعون على أن الحياة تذهب بالجميع إلى نفس الطرقات، تلقيهم على نفس المفارق والأرصفة، تجعلهم يسعون إلى نفس المطالب•• لكنهم لا يشعرون بأنهم سعداء حقاً، لا أعرف فيما إذا كانوا بالمقابل تعساء، فهم يعملون، وناجحون في أعمالهم، وأثرياء بشكل واضح، متعلمون تعليماً عالياً، وهم إلى جانب ذلك أشخاص مرموقون في مجال عملهم•• لا أعلم إذا كانوا تعساء، لكنني أرى الجميع حولي ينشغل بالأشياء نفسها، إنهم مشغولون طوال اليوم في اجتماعات دائمة، يعملون أوقاتاً إضافية، يفكرون في احتياجاتهم الحياتية، احتياجات البيت والأولاد، يتحدثون دوماً عن غلاء المعيشة والزحام وانعدام الحياة الاجتماعية، لكنهم لا يقولون إنهم تعساء، لا يقولون شيئاً•• فقط يبقون على انشغالهم خوفاً من تعاسة الفراغ واللاجدوى. عائشة سلطان | ayya-222@hotmail.com