في خضم المعارك السياسية العربية، وتحت وطء الانكسارات والهزائم والتفكك الاجتماعي وقع الإنسان، فريسة الانهيار الذاتي، وتحلل الأنا، ما أدى إلى وقوعه في شرك الإحباط والنظر إلى اللاشيء، وموت الذائقة لكل صنوف الحياة.. وقد لعب الخطاب التعليمي والإعلامي والسياسي دوراً جهنمياً في وضع الذات الإنسانية، في محرقة الانكواء والانكفاء، والانسحاب الذاتي، بعيداً كلياً عن مراكز الإبداع، والمبادرة والمثابرة، واتخاذ القرار المناسب في المكان المناسب والوقت المناسب. ظاهرة الإنسان الشمعي برزت في عالمنا العربي، وانتشرت وسادت، وأصبح من المستحيل الأخذ بيد هذا الإنسان إذا لم تتم عملية إعادة صياغة ثقافية، وترتيب الحالة النفسية وإعادة الذهنية إلى مربع التفكير الإبداعي والخلق القيمي. التعليم في الوطن العربي دأب منذ عقود مضت على صياغة العقل ضمن قالب جامد وخامد وهامد، وقياس الذكاء اعتمد كلياً على درجة الحفظ والتكرار، وإعادة ما حفظ وتلقينه، الأمر الذي جعل من الفكر الإنساني يتراجع إلى الوراء، التعليم مارس ضد الإنسان وسائل استثنائية في الكبح ولجم القدرات الفردية، ما هاض جناح الإبداع ووضعه في زجاجة مغلقة، مفرغة من الهواء، وقد سار الإعلام على نهج ملة التعليم، بل ولمعَّ وشمَّع المناهج التعليمية في أطر إعلامية جامدة. الإنتاج العاجز لا ينتج، ولا يعجز إلا من فرغت ذاته من محتواها، ووضعت في صندوق أسود حالك، والإنسان العاجز لا يستطيع أن يكون شريكاً في الإنتاج، والعاجز لا يملك إلا أن يصبح ضحية لأمراض نفسية واجتماعية وفكرية قد تؤدي به إلى الانصياع كلياً لعواصف تقذف به خارج السياق الإنساني ويصبح ذاتاً مستلبة مغلوبة، مقلوبة، غير محسوبة على الكيان الإنساني، أي أنه كالدودة الزائدة، وجودها كالعدم، وإذا تقيحت أشاعت السقم. الشعوب لا تتطور إلا بتعليم يتفوق على نفسه، والشعوب لا تستطيع أن تؤكد حضورها إلا بحضور العقل المبدع، والعقل المبدع لا يتكون إلا بالنجاح الذي يحققه المجتمع، والامتياز الذي يتبوأه في صناعة الإنسان المعافى من أوهان العلل النفسية والاجتماعية، فلا يبدع الإنسان في حضرة الاستلاب النفسي ولا ينتج في مستوى القوة الكامنة المهزومة، ولا يستطيع أن يكون إضافة إنتاجه طالما تجرد من أدوات الاقتحام والإقدام بقوة الذات المتماسكة. التعليم مصنع الكائنات الحية، ولا تنقرض هذه الكائنات إلا بانعدام رؤية التعليم وتوغله في مناهج تفسد الذائقة، وتحاكي السراب، وتغرق في المبني للمجهول، وتكسر المنصوب، وتمارس طغيان البدائية في السرد، وترسيخ مفاهيم ما قبل العصور الحجرية، وتغليب العاطفة على المنطق.. فالذين تطوروا ليسوا أكثر منا ذكاءً بقدر ما هم أفضل اختياراً لأدوات المستقبل، وإدارة عجلته بحكمة المنطق ومنطق الحكمة.