ارتحلت الى غياثي بحثا عن ماتذخره ذاكرة الوطن في روح المواطن وبيئته. وتجلت ملكة الصحراء 320 كم من العاصمة، منطقة تتعزز بها روح البادية، فهي موقع تاريخي لتحالفات وتجمعات طبيعية للقبائل التي ترعى الابل والغنم وتقتسم ما يهبها الله من ماء وكلاء. وتعكس هذه المعطيات بعد فكرة الشيخ زايد (طيب الله ثراه) لاختياره غياثي مركزاً لتوطين البدو الرحل حتى ينعموا بالراحة والرفاهية التي يتمتع بها سكان المدن الحديثة. فكانت آلية طرحه سابقة لأوانها من حيث رجاحة الفكر وسداده فيقول رحمه الله “وجدنا نقل البدوي من حياة الصحراء إلى حياة المدن دفعة واحدة ليس أمراً سهلاً، لذلك فقد عملت على ان ننقل لهم أساليب الحياة الضرورية حيث هم. نقلنا إليهم الماء والغذاء والسيارات ومضخات رفع المياه؛ بنينا لهم المساكن ومراكز صحية ومدارس وهكذا .. هذا هو الطريق .. وأصبح معظم البدو الرحل الآن ينعمون بالاستقرار.” وفي هدوء وروعة غياثي قابلت الشيخ مبارك بن قران المنصوري، حكيم متزن تسمو به السكينة فلقد رافق الشيخ زايد رحمه الله مايفوق 40 عاما وأسماه “الفتح المبين” لما بذله من أجل الوطن والمواطن. ثم التقيت بنخبة من أبناء وبنات عائلة السيد راشد مبارك مساعد المنصوري الذين رفعت شيم العرب الخالدة وجوههم وسمت هالاتهم بالعزة والرقي فأدخلوني بيوتهم التي فتحت أبوابها كقلوبهم وذبحوا السمين ولم يبخلوا بالغالي وجيئت دلال القهوة بأشكال وأذواق مختلفة واتفق أهل غياثي على ان حبات الهال وحدها قادرة على توحيد ذوق القبيلة فتجلى الكرم في الترحيب وتقديم مالذ من التمر الذي سبق احتساء جميع فناجين القهوة. فهمت من “قهوة غياثي” ومقدميها أصولاً وأسساً تتبع عند التعامل مع هذا السائل الحيوي، فللقهوة وسكبها فنون ومهارة صبها تكمن في احداثها صوتا هامساً عندما تلامس الدلة “الفنيال”. ومن قوانينها ان تصب للكبير سنا وشأنا قبل سواه، ثم من اليمين تيمنا بوصايا الرسول عليه الصلاة والسلام. والقهوة حق وأقل ما يستطيع المضيف تقديمة فان رفضها الضيف عبر ذلك عن احتجاجٍ وضيق وجب معالجتهما ونقاشهما بشجاعة. وعدت إلى ضجة المدينة لألتقي بالسيد خميس بن زعل الرميثي، فرد فريد تشق رؤياه للعالم مواطن الحكمة، وعندما سكبت له فنجاناً من القهوة نظر الي بحذر وقال: سامحيني “بس بخبرك” عن شيء لو اني طلبت منك ماء لقلت لك اسكبي لي ماء، أن وزن القهوة في الفنجان تقيس ذوق وتقدير ساكبها لشاربها ومقدارها يرشد شاربها لتذوقها برواق وتأن بعيدان عن الكلفه والتكلف. وأضاف: لقد أخبرني أبي أن قليل القهوة وقصر زمن القبلة دليلان قاطعان على ركادة الشخص وانتصاف الموازين بين مشاعره وأهوائه. وادخل القهوة في مبادئ الحب مستعينا بقصيدة للشيخ سلطان بن زايد الأول (رحمه الله) لول تســاوي ملك بغــــداد والشـــام وارض عمـــان كله واليوم ما تســـوى لك قنـاد لي ينحـــذف مـن راس دلــه الآن انتبه للتفاصيل التي كنت متأكدة ذات يوم من ادراكي لها، وعشقت غياثي التي سأعود اليها قريبا فهل من رواه يسطرون لنا تاريخ هذا الوطن؟ د. عائشة بالخير bilkhair@hotmail.com