إنه الزمن يجرف ما مضى إلى منتهاه، ويؤتي بأيام أخر متدفقة بطريقة مثابرة، وتبقي الصعاب شاخصة تختزلها الأيام، فمهما جرى الزمن فلا تنجرف المسارات عن سبيلها ولا تندمل الجراح، لذا هناك ما يسمى بصدمة التغيير، أو الخوف من القادم، تفاقم لغة الصعاب فلا يذهبها الدهر بعيدا، تمخر عباب الأجساد، وتتأهب للفوران، فما البال والأجساد أوطان تحيا بكل تجلياتها، تموج احتقانا وبالأسى مشبعة. هذا ما يفسره الوصف الإجمالي من حياة الشعوب، فالتاريخ كما يبدو بات عبئا على شعوبه، والحضارة القديمة باتت تتملص من صناعها، والمخرجات الحديثة تكافئ روادها، بات الزمن يمقت الثقل البشري المهيمن على الذاكرة، فكلما اتصفت الشعوب بالقدم هبت عليها رياح التغيير وبات ناقوس الخطر يطرق بابها، تلك الشعوب التي اتصفت بالعلم وحاربت الظلم ومقتت الجهل وسطرت الحضارة على خارطة شعوب العالم، عادت العوامل نفسها تغزوها، وكأن لها مسار دائري، يعطي لكل قسطا من الحضور، ويصرف ما في جعبته من علوم وثقافة، والدائرة لا تتوقف... ولأن المشروع العربي الكبير خرج عن مساره المألوف، ولم يعد واضحا سوى الترابط الظاهري، وبات التاريخ يسود الحياة بكل تجلياتها، وبالمقاييس الدراسية البشر يرون عدة صور قديمة، ومشاهد حزينة، ويجدون أنفسهم صمن آلية حبيسة وضيقة لا تجاري العصر، فالأجيال باتت تعيش مظاهر مغايرة وثورات من خلف الهيمنة التاريخية، وتركت الحسابات التي تفتقر إلى الحقيقة، تركتها كما لو أنها بركان يجسد شيئا آخر، وبات التغيير المستنير يرفض الإملاءات عديمة الجدوى، وليست من أهدافه التطلعات ولا الانقلابات الخاسرة.. ربما لا أحد يعلم ما هي الديمقراطية الحقيقية، ربما لا احد يعلم حقيقة الاحتقان السياسي، لكن التردي الاجتماعي، من شأنه أن يفضي إلى ما هو غير متوقع. من خصائص المشروع العربي أنه لم يصنع بما يشي بحالة وئام، فأصبح لا يؤثر على الآخر، وأصبح منتجا لحالات اليأس والبؤس، ومفتقرا لأصول الحياة.. هذه خلاصة مشروع يحمل أدواته وأفكاره وينضوي تحت أحلام الاغتراب. فاغتراب الذات الحرة أشد ما تعاني منها الشعوب، مما يجعلها تتطلع الى الحضور وردم الماضي المتشعب.. والمطالب الذاتية والقيمة الفردية وما خلف هذا الإطار هي مشاريع لا تجسد الرؤية الحقيقية ولا تجسد المتنفس الذي تنشده الشعوب، فالأصالة الحقيقية تكون في الاتزان في صون الأعراف والحقوق. ثورة حديثة، هل من شأنها ان تفرز نطاقا أوسع لثقافة مختلفة ومغايرة؟، ربما، ولكن بعد أن تنسف كيان الثقافة العربية، وبعد ان تؤصل لثقافة خارجة عن المراد، ربما بعيدة التصور، فليس من شأنها أن تعيد ثقافة مفقودة شرذمها الماضي أو بعثرها التردي، ثورة طامحة بلا ملامح تستمد طاقتها من الحضارة الآتية، مما يدعو بالثقافة العربية المحصنة ان تعيد فتح النوافذ.