اعتى الثورات وأعظمها هي تلك التي نخوضها ضد أنفسنا للتخلص من ركام الكلس والخوف المزروع في النفوس منذ الصغر. وأنبل طرق الحرية هي تلك الدروب التي نقرر أن نمشي بها ونحن نعرف أنها مزروعة بالشوك وقد تنتهي بالموت ومع ذلك لا تصدنا رياحها القوية ولا تعوق ارجلنا ارتجافات الجبناء وتراجعهم عنا مع أول خطوة.
الثورات التي تخوضها الشعوب في لحظة غضب سرعان ما تهدأ وتنام، لكن الثورة على الذات عبارة عن جهاد مستمر حتى النهاية. والإنسان الذي يتصدى لتغيير مصيره بنفسه عليه أن يظل يقظاً طوال عمره فلا يسمح لطاقات الغضب والكراهية أن تتسلل إلى عروقه، وإن حدث ذلك فهو يعرف كيف يتخلص منها عن طريق المحبة وزرع بذرة الخير في نواياه وأفعاله وأقواله والمحافظة على هذا النهج باستمرار حتى في أحلك الظروف الى أن يتخلص نهائياً من البذور السلبية الأولى التي تراكمت في شخصيته منذ الطفولة وهذا أمر صعب للغاية لكنه ليس مستحيلا، وهناك العشرات من القصص لزهاد ومتأملين وحكماء ومعتزلين استطاعوا التجرد من كل شيء والعودة الى ذواتهم الحقيقية بعد أن كانوا ملتصقين ومتشبثين بالأطماع والأهواء والرغبات. وهؤلاء هم من قرروا الثورة على أنفسهم لتغييرها فكريا وروحيا وقدموا دروسا في كيفية انتصار الإنسان على ضعفه وخوفه وترويض ذاته.
الشعوب العظيمة هي الأخرى قد تصل يوماً الى مرحلة النضج الفكري والروحي فتكون ثوراتها من داخلها حيث تشعر أولا بالضيق والنفور من خوفها الدفين ولا تعود تحتمل الصبر عليه، لأن كثرة الخوف تقود الى الشلل المزمن، لذلك تبدأ أولا برفع الصوت قليلا قليلا، ثم برفع الرأس قليلا قليلا ثم برفع الرايات والشعارات واطلاق ما يجيش في الخاطر والضمير وتتوج ذلك كله بالاندفاع الى مصدر الخوف ومواجهته واقتلاعه من جذوره. والشعوب التي تصل الى هذه المرحلة من النضـج لا يعود لها الخوف نهائياً لأن تربتها تكون قد تشبعـت بميـاه الحريـة العذبـة ولا مجال للتراجع أبداً.
الثورة الحقيقية هي فعل تغيير في العمق وليس انقلاباً مجانياً للمعاني والأفراد أو الكراسي. والانتصار الحقيقي هو في إبقاء شعلة الثورة متقدة في الروح والعقل والفعل الى أن تصير عادة وروتيناً متحولاً ومشرقاً. والثورات التي ظلت مشتعلة حتى اليوم قليلة جداً. أهمها ثورات الأنبياء ضد الجهل، وثورات الشعوب ضد الظلم والاستبداد وثورات الأفراد ضد ما يعوقهم وثورات الشعراء ضد المعاني المقلوبة والجمل الجاهزة والمعلبة. وهناك ثورات تكتسب بالدم واللهب وأخرى بالفكر والكلمة وثورات أخرى تكتسب بالموت.
الحياة الرائعة هي اندفاع دائم نحو الحرية مهما كلف الأمر، وطريق الحرية يبدأ بتغيير الفكرة المريضة التي في الرأس واستبدالها بشعلة ضوء تقشع الظلام كله.


akhozam@yahoo.com