كل ما قرأته بالأمس كان حديثا عن الفقد، منذ الصباح وعيني لا تقع إلا على مقالات تتحدث عن الرحيل والذين يرحلون، حتى هل المساء حاملاً خبراً بوطأة ومذاق الرحيل، رحيل الشاعر الكاتب أحمد راشد ثاني رحمه الله رحمة واسعة، وحين أوشكت على ملامسة حواف النوم جاءني هاتف من بعيد يقول لي إن الرحيل إن لم يحدث فهو حادث لا محالة، وكأننا كما قال الشاعر:
خلقنا للنوى وكأنه حرام على الأيام أن نتجمعا
لطالما أحببت الفرح الضاج بفجر الضلوع ضحكاً وشهقات حياة تلامس تخوم البهجة وتتلبسها، لطالما مشيت مع أصدقاء هم البهجة نفسها وأحيانا أقول أي منهما يستعير اللون من الآخر البهجة أم هم ؟ هؤلاء الأصدقاء، هؤلاء الرفاق البسطاء الطيبون الشبيهون بوجوه الصالحين في الذاكرة، أو بوجوه الراحلين إلى الآخرة ، كيف أتخيل فقدهم ؟ كيف أتخيل أحدهم مشروع فقد مؤجل أو فرح مؤقت، أعرف أننا منذورون للرحيل والفراق، فكل شيء كما قال الغيطاني إلى فراق، وأحبب من شئت فأنت مفارقه.
أتذكر صديقة جاءت من البعيد، ملأت الوقت علي باللون والصوت والضوء ، كانت صنو الحياة ورفيقة الثرثرات والضجيج، وحين أوشك نهار السبت، كنت قد صحوت فجراً لأوصلها إلى المطار، في الطريق لم نتبادل إلا بضع كلمات من قبيل “خللي بالك من نفسك، وكانت أياما جميلة ..” حين همت بمغادرة السيارة عند باب المطار دست في يدي ورقة وأسرعت بين حشود المسافرين ، فتحت الورقة ، كانت كلمات من قصيدة للشاعر المصري عبدالمعطي حجازي ، تقول :
لشد ما أخشى نهاية الطريق
وشد ما أخشى تحية المساء
إلى اللقاء أليمة إلى اللقاء
وكل ألفاظ الوداع مُرة
والموت مُرّ ....
نحن في أحيان كثيرة نقدم رفاقنا، أهلنا، أعز الناس إلينا قرابين مجانية للفراق ببساطة وبلا مبالاة وبجهل دون أن نعي مقدار الخسارات الفادحة التي نقترفها بأيدينا وتنتظرنا كليل سيلتهم ضياء أرواحنا ويلقينا إلى العتمة وحيدين إلا من طيشنا اللامعقول ، فليس أصعب من الفقد، وليس أكثر غباء وأكثر حماقة من تقديم أحبتنا هدية لرحيل مجاني قبل موعد الرحيل الحقيقي، فهل نعلم أن أي رفيق نفقده إنما نفقد جزءاً من ذاكرتنا، أحلامنا، وحياتنا معه حين يغيب، هناك من يذوي، يتلاشي، يفقد الذاكرة، إذا فقد الرفاق، وكأنه يقاوم الفقد بالنسيان !!
أعرف كثيرين ممن فقدوا رفاق العمر، فدخلوا في خلوة الذاكرة ينبشون مواقد الأيام علها تدفئ برد الزمن الحاضر مهيئا أرضا خصبة للزمن الآتي، لكن الزمن يمر، الذاكرة تتساقط أوراقها في الغياب، الزمن لا يخضر، الأصدقاء هم شمس الأيام، الأحبة هم وقود المواقد، الرفاق برغم كل رعوناتهم وحماقاتهم وحتى خياناتهم الصغيرة هم وهج الدنيا، ولذا فحين قرأت الرفاق يرحلون دون أن ندري أيقنت أن كثيرين بحاجة إلى جرس، إلى انفجار يمر بأذننا لينبهنا إلى أن الصديق شجرة كبيرة لا تقطع ولا تنمو بسهولة .
يا من سميتكم أحبة ، أصدقاء، رفاق وتعلمت أبجدية البهجة في وجودكم لا ترحلوا أبداً ان استطعتم للبقاء سبيلا ، فالرفاق لا يرحلون أبداً طالما كان لحضورهم هذا الطغيان المندس في عروق الأرض وتجويف الذاكرة.


ayya-222@hotmail.com