الاقتراب من إدراك ذواتنا وفهم طبيعتنا الأصلية يمثل جوهر السعي الإنساني منذ عصور، وهو مطلب الفلسفة وغاية العلوم أيضا. والبشر ينزلقون في الغشاوة التي يفرضها الوضوح فتكون الأشياء البارزة على السطح هي المضللة؛ لما يمور في الأعماق والذاهب إلى اكتناه سر الأسرار في هذا الوجود، عليه أن يقفز في اللجة العميقة لعله يلتقي بمعناه المجرد أو معناه الجوهري الذي يختفي وراء الاسم والشكل والجسد والهوية الآنية الضيقة، ذلك لأن الإنسان عندما يولد صغيرا إنما ينتمي إلى الكون كله، لكن هذا الإدراك يتلاشى تدريجيا عندما يمنحه الآخرون اسما ووصفا ويجبرونه على الانتماء إلى مجموعة لا تنتهي من الحلقات والسلاسل الاجتماعية. وبالتدريج تتشكل حالة أخرى لهذا الكائن بعيدة عن نطفته التي جاء عليها. وقد أدرك الفلاسفة منذ قديم الزمان هذه المشكلة ورأوا أن الفرد لكي يتحرر بشكل كامل من الوهم عليه أن يتخلص من كل الأفكار العالقة في وجدانه وأن يصل إلى مرحلة متطورة من إدراك ذاته باعتباره (مراقبا) لما يقوم به. وأن تعمل أو تقول شيئا وأنت تدرك تبعات ذلك يختلف كليا عن الإتيان بنفس الفعل ولكن من غير وعي. ففي الحالة الأولى تكون أنت المسيطر على أدوات وعيك وأنت الذي يكتسب المعرفة في كل لحظة ويراكمها، أما في الحالة الثانية فإن الفعل هو الذي يسيطر عليك وتكون أسيرة، وبالتالي أنت تصير غير نفسك. مجرد كائن يدور في فقاعة الدنيا متقلبا في مصائر لا دخل له بها مثل غصن هزيل معلق في الهواء تجره الرياح على مزاجها أينما هبّت هنا أو هناك؛ لأنه بلا أساس بعد أن فقد جذره أو تناساه. وللخروج من هذه الدوامة القدرية مع الظروف المحيطة بنا، ينبغي أولا أن نتشبث بالأرض عن طريق الانتماء إلى وعينا دائما ومراقبة ما يجبرنا على هذا الفعل أو ذاك، وساعتها سوف تتغير زوايا النظر للحياة كلها. وتغيير اتجاه النظر أو إلغاء النظرة الأحادية الجانبية للأمور هو جوهر لعبة الإدراك وحين يصل الإنسان إلى هذا المستوى العالي من الوعي تتلاشى عنده الفوارق وتذوب أمامه التناقضات التي تنشأ من العقل القاصر، فيرى الأفق واحدا والأشياء واحدة مترابطة في سلسلة لا تنتهي من الأسباب والعلاقات والنتائج، وكل فعل أو قول، إنما هو نتيجة وسبب في آن واحد ويقود إلى أسباب ونتائج أخرى دائما، كذلك فإنه يرى الأشياء والكائنات تترابط في وحدة عظيمة، وحتى لو كان الإنسان ينظر إلى جزء صغير من المشهد، إلا أنه يدرك ويرى فيه المشهد العام العظيم والكبير. فالزهرة الصغيرة النابتة وسط العشب تختزن في وجودها علاقات الكون كلها بداية من وجود التراب والماء والبذرة والهواء والمطر وما تحت التراب في سلسلة لا تنتهي من الموجودات والعناصر والأسباب. هكذا قرأ الحكماء الكون من تفاصيله الصغيرة وعرفوا أبعاده قبل اكتشاف الآلات، ذلك لأن محاولة استيعاب الكون بشكله اللانهائي، هو أمر لا نهائي أيضا. لكي نتجاوز فهمنا الضيق لا نحتاج إلى رؤية أوسع كما يظن البعض، إنما رؤية أدق وأقرب، رؤية واعية ومدركة لذاتها ولفعلها المحايد الذي لا يطلق الأحكام على ما يراه، إنما يظل يراقب الوجود في تداعياته وانقلاباته وأسبابه المتغيرة وهذا فعل وعي لا يحده زمن ولا مكان. عادل خزام akhozam@yahoo.com