كتبت قبل أيام عن رحلة الحياة التي لابد لها من نهاية وهي الموت الذي نخافه كلما ذكر، فللحياة حلاوة لا تُعرف إلا في لحظة الموت، ومهما كانت الحياة ملأى بالمرارات، ومغمسة بالألم، فإن الإنسان يحرص عليها بكل ما أوتي من قوة، ولكنها لحظة الحقيقة التي نهرب منها دوماً "الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا". غصت الصفحات على امتداد الوطن، وغرقت بدموع أحبة ورفاق درب، وقراء، وهم يرثون موسوعة كانت تمشي على الأرض، ولم يحسوا بالقيمة الحقيقية لهذه الموسوعة التي تمشي على قدمين "أحمد راشد ثاني"، إلا لحظة سماعهم النبأ، أو مشاهدته وهو يسلم الروح النقية الطاهرة إلى بارئها بعد رحلة من العذاب مع المرض. الدموع المسكوبة من قلوب محبّة من قريب ومن بعيد، صدمت بالنبأ الذي صعق الجميع، وتنبئ عن مصاب جلل. على الرغم من أنك كنت تعاني المرض، وترقد في سريرك تغتسل بالألم وبالآه والآخ، فقد كان مجرد بقاء أنفاسك في الحياة، طمأنينة لمحبيك وأهلك وأسرتك التي تمتد على ربوع الوطن من خورفكان واحة الجمال والحب، إلى كل ذرة من رمال صحراء الوطن التي وطأتها قدماك اللتان لم تتعبا يوماً، فقد كنت ترفض الرفاه والرفاهية، فتجوب البلاد على قدميك كرحالة وسفير للوطن. لم تزل صورته في الذاكرة وهو يتأبط مقالاته التي عبقت بها صفحات الصحف والمجلات، ومفرداته التي كان ينحتها من تراث أفنى عمره وهو يرويه ويسطره، بلا كلل أو ملل. خبر وفاته أسال الدموع، من عيون رفاق رحلته مع القلم الذي لم تتركه يده، فقد كان صديق قلمه السائل المتدفق دوماً برواية التراث، بذكريات محملة بالعذابات التي لاقاها الآباء، وعشق الأرض الذي يعشش في قلبه، فيجعله دائب الحركة، يرفض أن يتوقف عن الكتابة، متنقلاً بين الفنون، فتراه "مجموعة إنسان" بسخريته المجروحة بسكين هموم تسكنه، تراها في عينيه، وكأنه في الثمانينيات من عمره. كان من البساطة ما يوحي بأنه من الدراويش على أبواب الله، بقلب أبيض ونية صافية لكل من حوله، وكنت أنظر إليه من بعيد وهو ينثر الابتسامات والضحكات، على الحاضرين، كشجرة سنديان عمرها آلاف السنين، لغزارة إنتاجه، الأدبي والثقافي. نم قرير العين يا أحمد.. فمثلك لا يُنسى ولا يرحل، ستذكرك الأشجار والأطيار، والأصحاب والأحباب، ها أنت على كل لسان، وفي كل قلب، واعذرنا إن لم نعطك حقك فقد أعطيتنا ولم نمنحك ما تستحق ولم ننزلك منزلتك التي تليق بالقامات السامقة، ورموز الوطن، ولكننا اكتشفنا أنك كبير فينا، بكل ما فيك، ستذكرك الكلمات التي سطرتها بمداد قلبك وروحك..وداعاً أحمد. إسماعيل ديب | Esmaiel.Hasan@admedia.ae