إزاء الأحداث العنيفة والمتلاحقة التي تجتاح عالمنا العربي، فإن علينا، بصفتنا باحثين عن الحقيقة، أن لا نكتفي بالتحليل العابر الذي تطالعنا به الفضائيات العربية، فالتلفزيون لم يكن يوماً وسيلة للمعرفة الحقيقية والرصينة، بقدر ما يشكل وسيلة ممتازة لنقل المعلومات ومتابعة الأخبار والأحداث، معتمداً على الصورة كبطل رئيس، ذلك ان طبيعة الفضائيات وتسارع الأحداث وسيطرة ثقافة الصورة لا تفسح المجال كثيراً للتحليل المعمق للظواهر السياسية وغير السياسية؛ ولذلك عدت مجدداً لكتاب “لماذا يتمرد البشر؟” للأكاديمي الأميركي “تيد روبرت جير”، مؤسس ومدير مشروع الأقليات المعرضة للأخطار في جامعة “ميريلاند” لمعرفة الجواب عن هذا السؤال الذي طرحه منذ عدة سنوات. يتصدى كتاب “لماذا يتمرد البشر؟” لدراسة الدوافع الحقيقية لظاهرة استعداد الناس لزعزعة أركان النظام السياسي عن طريق العنف، محاولاً الإجابة عن الأسباب المولدة لهذا الاستعداد ومداه وآلياته وعلاقاته بالحرمان الاقتصادي والكبت السياسي، ومدى علاقة الدوافع النفسية والاجتماعية بالعنف الجماعي، كما يفحص الكتاب بدقة مفهوم الحرمان وارتفاع مستوى التوقعات لدى الناس، وعدم حصولهم على ما يتوقعونه، وما يصاحب ذلك من غضب واحتقان عادة ما يوفران أرضية صالحة لاندلاع العنف! تأتي هذه الدراسة القيمة في إطار البحث العميق لظاهرة العنف المتنامي داخل بعض المجتمعات، وفشل دول ذات مستويات قوة خارقة كالولايات المتحدة في التصدي لظاهرة الإرهاب؛ ذلك أنها اعتمدت في مواجهتها على منطق القوة والحرب العنيفة الشرسة، وليس على أساس التوازن وفهم الدوافع، وبالتالي إيجاد حالة من التوافق داخل المجتمع تمنع حدوث أي عنف مستقبلي. ليست الولايات المتحدة وحدها، وإنما هناك مجتمعات كثيرة لا تزال مصرة على مواجهة توقعات الناس العاديين والنخب السياسية والمثقفة بمزيد من الإحباط والتجاهل تماماً، كما يحصل في كثير من دولنا العربية، الأمر الذي قاد أخيراً للانفجار، وبالتالي الدخول أكثر وأكثر في العنف والمواجهات والقطيعة، في الوقت الذي نجد فيه مجتمعات أخرى كانت أكثر ذكاء في التعامل مع الظاهرة، حين تمكنت من توفير فرص ومناخات ملائمة من العمل والانفتاح والتعبير عن النفس لامتصاص حالات القلق والتوتر والحرمان. إن استعداد الناس للتمرد والعنف استعداد فطري كما يقول المؤلف، إذا توافرت له الأرضية المناسبة، خاصة في ظل التفاوت الطبقي الاقتصادي بين الناس في أغلب المجتمعات. تخرج الدراسة بمجموعة من الاستنتاجات والتحليلات، وتسلط الضوء على مفهوم “الحرمان النسبي”، والمفاهيم المتفرعة عنه، وارتفاع وتيرة التوقعات بالنسبة لمنظومة القيم، والفرق بين هذه التوقعات، وتوافر الفرص لتحقيقها، ودور ذلك في اندلاع العنف، من خلال معالجة شدة الحرمان النسبي ونطاق وجوده وطبيعة العلاقة بين شدة الغضب والتحولات النفسية والثقافية. على ضوء ذلك، يمكن أن تحدد العمليات الاجتماعية والسياسية، التي يمكن لها أن تولد حالات من السخط الشديد والواسع الانتشار، ان الحكومات التي تتمتع بشرعية شعبية فنادراً ما تكون هدفاً لحركات التمرد، بعكس الدول التي تعاني انعداماً مزمناً في منسوب العدالة، والحريات العامة مع تزايد واضح لسياسات القمعية والحرمان وإفقار الناس. لا بد من النظر إلى عناصر الهوية الاجتماعية بعين الاعتبار كمصدر أساسي لتحقيق الانسجام الاجتماعي الذي ينبثق عنه الشعور بتناغم الأفكار وتقارب طبائع الأفراد، إضافة إلى أهمية شبكة التفاعل الاجتماعي التي تذيب المسافات بين الأفراد، وتقلص الشعور بالقطيعة والإحباط والغبن أو الظلم الاجتماعي التي تقود في النهاية إلى حالة من الاكتئاب القومي العام. الكتاب جدير بالقراءة فعلاً في هذه الظروف التي تمر بها الأمة العربية. عائشة سلطان | ayya-222@hotmail.com