«الموت السعيد» رواية الفرنسي ألبير كامي، المبكرّة، التي اعتبرها بعض نقاده بروفة روايته الشهيرة «الغريب»، أتذكر أنني قرأتها بشكل مبكر.. كنت مع آخرين في رحلة طلابية من القاهرة إلى الإسكندرية. وكانت بصحبتي هذه الرواية. أتذكر الفترة وتحديداً تلك التي رحل فيها عن عالمنا المطرب فريد الأطرش، حيث قرأنا الخبر الفاجع لمحبي فنه، ونحن على مائدة الفطور الجماعي.. في الفندق الواقع بمحطة الرمل المطل على بحر الإسكندرية قرأت بمتعة هذه الرواية القصيرة.. كان بطلها الذي تنتابه وتخترق كيانه الهواجس الوجوديّة ولحظاتها المتوترة التي تطوّح به خارج السياق المألوف للوجود البشري بميراثه من القواعد والتصورات، تقذف به إلى الحيرْة والمجهول. تلك الهواجس التي تتشعب وتنمو وتتعمق أكثر في أدب ألبير كامي وفلسفته بمراحلها المختلفة التي اختزلها موته المبكرّ أيضاً أيما اختزال في مسيرة ثريّة، كان لها أن تعطي أكثر بموازاة قرينه الذي امتد به العمر والعطاء الغزير، جان بول سارتر. في أحد مشاهد رواية «الموت السعيد» كان الفتى يسبح في البحر، وكان كلما يوغل أكثر في المياه تسري في أوصاله لذة الموت عبر التلاشي والاضمحلال، في هذا السديم المائي الذي يتبدّى له لا نهائياً ولا محدوداً. كنت أقرأ على إيقاع موج البحر الإسكندراني، حيث تتماهى وتلتحم أمواج البحر الواقعي مع موج القراءة الأدبية في رحلة إبحارها الأولى، بعد قراءات أدبيّة ودينيّة يمليها الوسط البيئي، الثقافي السائد. كانت القراءة تخلق ذلك التوّحد الجمالي الفريد في مخيلة لم توغل فيها بعد، جراحات وجودٍ، هاجسه الأول الاندثار، والتدمير. بعد هذا الخضمّ من السنين، أسبح اللحظة، في الجزيرة الآسيويّة النائيّة، أتذكر تلك الرواية، كما أستحضر كلامكِ الخائف، وأنا أغطس في الأرخبيل المتلاطم لمياه جزر بحر العند مان الذي هو جزء من بحر الصين المترامي. كنتِ تخشين أن أتحول، مأخوذاً بتيارات الأعماق، إلى مخلوق مائي، وأسرح مع كائنات البحر، هكذا، حتى الذوبان الكامل في عوالمه ومخلوقاته المتلاطمة واللانهائية. أتذكر اللحظة، كلامك عن التحول عن دنيا البشر، إلى عالم المياه وحيواتها حتى الضياع والتيه في قيعانها السحيقة، وربما الاستقرار هناك بمعانقة السلام الروحي والجسدي. من يدري؟.