عبرت «المانش» وبحر الشمال مرات عدة، كانت المرة الأولى عن طريق مرفأ العبارات الهولندي على بحر الشمال، والمعروف باسم «فان هوك هولند»، وبالذات على متن العبارات الليلية، المختلفة تماما عن «الحوامات» النهارية السريعة، فهذه العبارات تكاد كل منها أن تكون مدينة متحركة بذاتها، وتشعر معها بمتعة السفر، إذ تستوعب كل واحدة ما لا يقل عن ثلاثة آلاف شخص، ومئات السيارات والشاحنات التي تقل بضائع وسلعا متنوعة.وتضم كل عبارة عشرات المتاجر والمطاعم ودور الترفيه، تخالط أقواما من أجناس ونحل مختلفة.ولا تكاد شمس اليوم التالي تشرق بعد إبحار ليلة حافلة، إلا وترسو بك في مرفأ هارويش، لتجد القطار في الانتظار لينطلق بالقادمين إلى العاصمة لندن. وأمام الإيقاع المتسارع للرحلات، كان الاعتماد في السنوات الأخيرة على قطار المانش أو» اليورستار»، كما يسمونه في بلاد الإنجليز، وفي أولى رحلاتي به، كنت تحت تأثير التغطية الإعلامية الواسعة في وسائل الإعلام البريطانية والفرنسية على حد سواء، حول ما قيل من استياء فرنسي واسع من اختيار اسم» واترلو» للمحطة التي ينطلق منها القطار في قلب لندن باتجاه باريس، وطيلة الرحلة كنت مشغولا بذلك، لدرجة أنني كنت أتوقع أن يستقبلنا القوم هناك برشقات من الطماطم والبيض الفاسد، لأننا انطلقنا من محطة تحمل اسم معركة شهيرة، تجرع فيها نابليون بونابرت مرارة هزيمة مذلة على يد القائد الإنجليزي الدوق ويلنجتون وحليفه الألماني المارشال بلوخر، في المعركة التي قضت على كل أمل تبقى لبونابرت، الذي هرع ليعلن تنازله عن العرش. كانت الأمور طبيعية في المحطة التي غادرتها مع أصداء الاختلاف والخلاف عند هذه الأقوام، إذ لم يكن الأمر سوى طنين إعلامي واستياء من تسمية لا تحمل إلا دلالاتها التاريخية عند ساكني بلاد الغال. ورغم تباعد تلك الذكرى، إلا أن ظلالها سرعان ما ترتسم أمامي كلما انطلقت من «واترلو» أو قفلت إليها عائدا. ثم انظر لما كان بين ألمانيا وجيرانها، والذين خسروا ملايين الأرواح في نهر الدم الذي اجتاح شرق أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية. بلاد تعرف كيف تختلف لتتفق وبقوة حول مصالحها، أما عند عرباننا فالاختلاف في الرأي يفسد للود ألف طريق وطريق، يقولون في الظاهر إن « الاختلاف رحمة»، ولكن في الباطن في الاختلاف انتقام، وأول من يدفع ثمن الانتقام، أبرياء لا ذنب لهم، إلا أنهم وجدوا أنفسهم في الجانب الآخر من «الفسطاط»، أو الخط الوهمي الذي رسموه لأنفسهم. انظروا لمبارياتنا الرياضية، وكيف تتحول إلى داحس وغبراء عندما يتواجه منتخبا بلدين، يقول الإعلام إنهما» شقيقان». وانظروا إلى بعض منتديات الإنترنت التي تتحول إلى ساحة مواجهة مفتوحة يتم فيها تبادل أفظع وأقذع العبارات، من قذف وسب لا يوفر شيئا إلا وطاله. وتكبر شرارات أحقاد تؤججها مقالات هنا أو هناك، لتصل إلى مستوى مواقف رسمية، وسحب سفراء وإغلاق مصالح، وغيرها من المظاهر التي تكشف مقدار ضيق صدورنا بأي صورة من صور الاختلاف مع الآخر، و تزداد مظاهر التعصب والتشنج المصاحبة له إذا كان الطرف الثاني«شقيقا» نشقى ويشقى بخلافنا معه!!