في تاريخ الدول والشعوب المتحضرة والتي تسمي نفسها ديمقراطية، تعتبر حرية التعبير مقياسا ودليلا على العافية الديمقراطية لهذه الأمم، ويعتبر حق التعبير عن الرأي مكفولا ومصانا، كما يعتبر الشارع هو المنبر الطبيعي والمفتوح للجموع الغاضبة والثائرة للتعبير عن مطالبها وإيصال تلك المطالب لمن يهمه الأمر : للحكومة أولا وأخيرا، وهنا تختلف ردات الفعل عند الحكومات، فهناك حكومات لا تحتمل صوت الشارع أبدا مع أنها تصر على تسمية نفسها بالديمقراطية فتنزل شرطة مكافحة الشغب قبل نزول المتظاهرين إلى شوارعها، وهناك حكومات تطلق لرصاصها العنان وهناك حكومات تحاصر كل مئة متظاهر بكتيبة كاملة العدد والعدة وأحيانا بل وغالبا ما تكون معززة بآليات ومدرعات حتى تظن أن الحرب قد قامت فعلا. في التاريخ الحديث وفي شهر مايو من عام 1968 مرت الحركة الطلابية الفرنسية والحكومة الفرنسية باختبار عصيب، تجمع الطلاب الفرنسيون أمام برج إيفل الباريسي، وأخذوا يهتفون بكل حماس و ثورة، أخذ الحماس و التهييج الشعبي هؤلاء الطلاب، وما هي إلا ساعات معدودة حتى اضرمت نار المظاهرات في جميع مقاطعات فرنسا شرقاً وغرباً، تطالب بالإصلاح ومقاومة الفساد، وانضم إلى الطلاب المتظاهرين العديد من الجماعات اليسارية واستحال على الشرطة السيطرة على الأمر فيما عرف بالثورة الطلابية في فرنسا في تلك الأيام. وصل خبر المظاهرات الصاخبة إلى القصر الرئاسي، وجلس الرئيس الفرنسي «شارل ديجول» مع مستشاريه في اجتماع طارئ لمناقشة الوضع القائم وخطورته على الأمن والنظام، أشار وزير الداخلية للرئيس بأن يقوموا ببعض الاعتقالات لتخفيف حدة هؤلاء الشباب الثائرين، وقام بالحديث مطولاً عن هذه المظاهرات وما تمثله من خطر يهدد النظام بأكمله « لم نستطع السيطرة عليهم سيدي الرئيس» هكذا كان يقول الوزير لرئيس الجمهورية. من يعرف شارل ديجول مؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة ستكون لديه فكرة ولو بسيطة عن ردة فعله تجاه نصيحة الوزير « أتريدونني بعد أن قدت فرنسا للحرية أن ألعب دور الطاغية على أبناء بلدي؟ فما فائدة الجمهورية بدون حٌرية اذن ؟» هكذا رد ديجول على الوزير الفرنسي. إلا أن الوزير لم يعجبه ردة فعل ديجول، فأشار مرة أخرى لديجول بأنه سينهي الأمر عن طريق بعض التدخلات الأمنية، فقط اعتقال بعض المثقفين، أمثال جان بول سارتر و .. قاطع الرئيس الفرنسي ديجول وزير داخليته بغضب ظاهر قائلاً كلمته الشهيرة التي خلدتها صفحات التاريخ طويلا «فرنسا لا تعتقل فولتير». فُولتير لم يكن متظاهراً عند برج إيفل، ولكنه في ذلك الوقت كان قد أصبح رمزا لحرية الرأي والتمرد على الوضع القائم، كما أصبحت عبارة فُولتير الشهيرة «إنني مستعد أن أموت من أجل أن أدعك تتكلم بحرية مع مخالفتي الكاملة لما تقول» رمزاً لحرية التعبير، وتقبل الرأي الآخر مهما كانت حدته واتجاهاته، فمن هو فولتير؟ أنه رجل يصف اسمه القرن الثامن عشر كله. كما وصفه أحد رموز الأدب العالمي الفرنسي الكبير فيكتور هيجو، وهو الذي قال عنه لامارتين « إذا كنا سنحكم على الرجال بأفعالهم عندئذ يكون فُولتير أعظم كاتب في أوروبا المعاصرة بلا منازع». فكيف ينظر أولئك الذين يدعون الحرية والديمقراطية إلى كلمة ديجول وهم يحصدون أرواح شعوبهم في الشوارع على يد رجال الأمن والشرطة لأنهم قرروا أن يعبروا عن رأيهم ؟ ayya-222@hotmail.com