عندما تنتقل من محطة تلفزيونية إلى أخرى، تجد نفسك تخوض حرباً شعواء، تفترس الذاكرة، وتنغرس في الروح سهام سامة، تحاول أن تنفد بجلدك من هذا الصراع المرير وأن تفتح نافذة تتنفس منها هواء نقياً غير ملوث برائحة الدماء وأن ترى مشاهد غير المشاهد المفزعة فلا تجد·· فالعالم، من أقصاه إلى أدناه يعيش حالة سفك ونسف وعسف، وخسف، فلا جهة تبدو تنام قريرة العين، هانئة والقيم الإنسانية التي نبتت على تضاريس الأرض، أصبحت كعصف مأكول تذروها رياح الغضب، والهدير المرعب، يمسك بتلابيب البشرية وعندما تستفتي قلبك، تجد أنه لا يوجد عاقل على وجه الكون فالجميع يكتسحون الأشياء الجميلة ويدوسون على القيم النبيلة، ويذهبون بعيداً وعميقاً باتجاه خلط أوراق الكون وتحويل البقع الزاهية إلى داكنة حمقاء مكفرة·· تستفتي قلبك فلا مساحة للطمأنينة، ولا جهة للتأمل، فالأشياء من حولك تشتبك في عراك يخض ويرض الأرض ويجلد الذات الإنسانية، بعصا الرعب وكلما استشعر الإنسان بومضة ضوء تأتي من بعيد غشتها سحابة مضطربة فأتت على وميضها واقتحمت الرأس رجة أشبه بالصدمة الكهربائية·· تتأمل المشهد العالمي وتفكر في الصغار تقول: الله يعين هؤلاء لأنهم منذ أن فتحوا عيونهم لا يرون إلا اللون الأحمر، ولا يسمعون إلا عن قتل هنا وجرحى هناك·· الحروب اغتالت الفرحة واحتلت مكاناً واسعاً شاسعاً في الأرض والبحر·· والحوار الذي دعت إليه قيم الإنسانية ومبادئها أصبح خواراً ودواراً أطاح بالعقل الإنساني واستبد وأباد ولم يعد العالم يعترف بالكلمة، كقاسم مشترك بين البشر وأعتقد أننا نخطو خطوات حثيثة باتجاه الخلف لنصل إلى عصر الجمع والالتقاط، عصر الحجر في مواجهة الخطر، بل إننا ودعنا بلا رجعة علاقة الإنسان بالإنسان وقاسمهما المشترك قول بليغ وحسن لحل كل القضايا وقطع دابر الخلاف بين الجماعات في الوطن الواحد، وبين الأوطان والأوطان·· ودعنا العقل واشتغلنا على الغل، ونفخنا الذات، حتى أصبحت بالوناً ضخماً يحلق في الفضاء ولا يلامس الواقع·· ودعنا الحلم وأكببنا على اللجم، وأصهرنا في بوتقة الغليان حتى ذاب جلد الحقيقة وبرز العالم، وكأنه كتلة من جحيم أثيم، رجيم·· وما صنعته الحضارات صار نفاية نقذف به في مزابل التاريخ ونلعنه ونسخطه بقلوب مكتوية بالحقد، والكراهية لكل ما هو ناصع ورائع· ودعنا، وركبنا قارب الموت ودخلنا بحر الظلمات بحثاً عن سراب اسمه الذات المخدوعة· ودعنا وامتطينا خيول الغضب ووصلنا في فراغ يأخذنا إلى فراغ·