البعض يُريد تديين السياسة، والآخر يُريد تسييس الدين، وفي كلتا الحالتين نحن أمام جلطة دماغية، تصيب الحراك الإنساني، وتقلب المقاييس، وكأن الدين شيء جديد نزل على البشرية وعليها الاستفادة من هذا الاختراع الجديد·· هي في الحقيقة كلمة حق يراد بها باطل ·· فالدين ليس نداً للسياسة، ولا السياسة نقيضاً للدين، فكلاهما فعل كوني الهدف منه صياغة واقع إنساني، يخرجه من حالة الغوغائية والبوهيمية والتشرذم الأخلاقي، والانحطاط الاجتماعي·· الدين هو أداة بناء، إذا صبَّ مِزاجه الأخلاقي المُعافى في وعاء الحياة نمت وترعرعت، وازهرت، وتطورت الأمم، أما إذا استخدم كمعول هدم ومحراث ردم، فإن الحياة تتحول إلى غابة تعيث فيها الفرائس هتكاً وفتكاً على حساب الطرائد·· اليوم ونحن نشهد صورة من هذه الصور في العالم وقد فلت الزمام، وانحل العقل وزاغ البصر، وتهورت البصيرة أصبح المراهق مفتياً، والعاطل فقيهاً، والذي كان ''كذا'' داعية والمشعوذ مُفكراً، والمتسكع متحدثاً·· أصبحنا نجلد أنفسنا، ونجلد الآخرين، ونمارس حق منح صكوك الغفران لمن نريد، وحق الإلغاء والإقصاء لمن لا نريد·· الاختلاف صار شيئاً من جهنم، وأصبح التفكير خارج الأطر الجاهزة والسقوف الخفيضة، أمراً من أمور الآثام التي تؤدي إلى الجحيم·· فقد ضاق الفضاء، وأصبحت الأرض أشبه بالأسلاك الشائكة، لأن الأحكام معدة مسبقاً، والجلاد بسوط الآخرين، بالتهديد، والوعيد، والويل، والبثور، وظلام القبور، وعواقب الأمور· اليوم تتسع الهوة بين فريقين وتفتح الفجوة فاهاً أوسع مما بين جبلين·· اليوم نحن نضع أيدينا على قلوبنا، لو فتحنا ثغراً بكلمة، خشية رقيب يأتي من أقاصي الدنيا ليقول هذا انحراف عن السياق، والسباق مستمر بين الأحياء يُطاردون الكلمة ويُلاحقون الفكرة ويرسمون لهم خطاً موازياً للآخرين، وكأنهم جاؤوا من عالم مختلف، ورسالتهم التقويم والتقييم والترسيم، والتصميم على رفض الآخر، إذا لم يكن بنفس الصورة المرسومة في الذاكرة، والذاكرة مثقوبة مثلوبة معطوبة، لا تتذكر غير الحنين إلى ماضٍ تولى واندثر، ماض تضور وانكسر لأنه خالف الدين وناهض العرف واحتسى من كأس المضارب العقيمة· نحن أمام واقع مسف مستخف بعقل الإنسان وشيمه وقيمه، نحن أمام واقع غابت فيه المرجعية الحقيقية وامتطى خيل الدعوة أشباه وأنصاف، وبكل إسفافٍ اختلط الحابل بالنابل، وضاعت الهوية، بينما للدين ركائز واضحة، وساطعة، لا تخفى على عاقل، وأسس الدين سارية على علم لا تحتاج إلى أساطين جدد يعبثون في مجرى الماء·· فالحرام بيّن والحلال بيّن·· فقط العقل هذا الكائن لو احترمنا فعله لعلا، وعلا شأن البشرية وتحررنا نحن أهل الرسالات من طلب شهادة حُسن السيرة والسلوك من الآخر·· تحررنا من عقدة الذنب بما ارتكبه نفر من بيننا فأساء وشوّه، ودمر تاريخاً صنعته عقول من هنا·· تحررنا من خوف القادم والداهم، والمتربص، والمتلصص، والمتفحص حتى فصيلة الدم·· تحررنا من ربقة ألمت بنا، وغُمة أحاطت بنا حتى صرنا المتهمين في كل شاردة وواردة تحصل في هذا العالم حتى وإن هبت ريح قالوا جاءت من هناك· نحن أصحاب قضية فصرنا مطالبين بحل قضايا العالم·· وهذا ما جناه علينا أناس من بيننا·