تحيل ثنائية اليد واللسان ـ التي وضعها الدكتور عبدالله الغذامي عنوانا رئيسا لآخر إصداراته ـ إلى الكتابية والشفاهية كلحظتين في الوعي الإنساني من جهة، ودلالتهما الحضارية من جهة أخرى، وصلتهما بالحرية والإبداع وما يرمز إليه قمعهما أو كفهما بالقطع المسلط عليهما: قطع اليد واللسان معا تعبيرا عن الكبت العسف والإلغاء. يحصل أن يحدث ذلك حقيقةً: كقطع يد الخطاط ابن مقلة، أو لسان الشاعر عبد يغوث الحارثي، ويصبح مدلول القطع حتى في التداول اليومي هو إيقاف مفعول الاثنين معا، فسلطة اللسان في المرحلة الشفاهية لا تقل قوة عن سلطة خطاب الكتابة. وربما ظل أثر أو مفعول المكتوب ساريا حتى بعد محو يد كاتبه. وهذا يفسر اعتماد السحريّ على الرُّقى المكتوبة والتعاويذ كتمثيل لسلطة الكلام المكتوب، لكن تفوهات اللسان يتلاشى وجودها إلا عبر ألسنة النقَلة والرواة؛ أي أنها بحاجة إلى وسيط مماثل لقائلها، قد يحرّف أو يعدّل، وهذا مالا يمكن حدوثه في تدوين المكتوب. لذا تشدد الحكم والأمثال والوصايا على مراعاة الصمت، والتنويه بذهبيته إزاء فضّية الكلام، وأنه حصانك الذي إن صُنته صانك، واعتراف أحد الحكماء بأنه مَلك متملك لكلمته إنْ هي ظلت في جوفه، لكنها تتملكه وتستعبده عند خروجها منه، وتأكيد ابن المقفع في مقدمة حكايات “كليلة ودمنة” ضرورة الصمت في مجالس الملوك والولاة؛ فتلخصت حكمة الكتاب بجملة (اصمت تعش)، وأودى التفوّه بصاحبه للموت. الغذامي المنشغل بالنقد الثقافي يجد في الثنائية الأزلية مناسَبة لاشتقاق (جملة ثقافية) ذات بُعد رمزي متسع هي (اقرأ الكتاب) التي “تحمل تصوراً معرفياً تُقرأ به الواقعة الثقافية العربية في لحظات تكونها وفي أوج ازدهارها” كما يقول في تقديم الكتاب الذي تتنوع مضامين فصوله القصيرة ـ وهي مقالات حول القراءة والأمية ورأسمالية الثقافة كما يحددها العنوان الجانبي للكتاب ـ لكنها تتمحور حول فعل الكتابة وقراءة المكتوب كتطوير للمقروء شفاهيا، باعتبار هذا الفعل مما يشغل المهتمين بالنقد الثقافي ومطارحاتهم التي تضع الأدب في مفردات الاهتمام اليومي؛ حتى أن كثيرا من الفصول تبدأ بحادثة شخصية يستلّها الغذامي من طفولته أو دراسته أو عمله؛ لتتطور إلى رصد ظاهرة مما يعنى بها النقد الثقافي ويتعقب مدلولاته .وهذا يفسر ذَرّيّة أو صِغر بعض الحبكات المؤدية إلى موضوعات القراءة وثنائيتها المتكاثرة؛ كالوصول إلى واقعة شراء مكتبة بثمن (باسكليت) يشتريه الوالد للكاتب تحقيقا لرغبة صبيانية ملحّة، فيغدو باسكليت قراءة نادر القيمة، وينوه الغذامي بتنويعات الحالات الثقافية المعروضة، كتحذيره من شفاهية كامنة ينطوي عليها التواصل الإلكتروني أو التكنولوجي عامة، وهي شفاهية متسترة تُشيع كالشفاهية التقليدية أحيانا قيم النميمة في فضاء الكتابة، يساعدها إخفاء الاسم أو تمويهه، وسرعة رجع الصدى والمشاركة التفاعلية الفورية.