صدفة أتى شخص غريب.. فيما الرجل الذي يجلس وحيدا لا يعرف من أين أتى هذا الشخص، أمن الغيوم التي تنحسر أو من شروق الشمس أو غروبها.. من بهاء القمر أو إنبلاج الظلام أو من عمقه، من الذاكرة أو فضاء الطفولة، من جنون الخيال أو من الحلم. جلس وكأنه نور، وبينهما فنجان قهوة ووردة لم تذبل بعد، وحيث كان الرجل الوحيد في صمته وسرحانه المنساب في مشهد البحر الجميل، أطلق الشخص الغريب عتابه الطويل قائلاً: “ها أنت بملامح وجهك الجديدة، وبقلبك القديم الذي أرهقته العزلة وأرهقه الهيام.. وهناك زمن طفولتك والصبي الشاطئي الساكن في وجه الخليج.. قدماك الحافيتان في الأزقة والرمل السابح في أظافر قدميك.. قدماك المتسخة بالغبار.. طفولة شقية وشرسة كانت، وكانت تجمعنا رفقة تنتشي بالفرح دائماً وترمي الخوف إلى أبعد من حكايات الجن وقصص البحارة الخرافية.. تجمعنا حالة عدم الاكتراث إلا إلى أشيائنا الصغيرة. وها هي الأيام قد أخذتك عنا، أخذتك الحروف والكتب.. تماديت في التأمل وحطمت قيود البيت والمجتمع.. ولكننا كنا نراك وأنت تحاول صعود النخلة بلا حبل، نراك تسقط ووجهك صافٍ ولسانك نقي. حدقت عيناك في أشياء كثيرة، ورأيتهم يركضون نحو البريق ولكنك لم تتبعهم.. وبقيت تصارع الياثوم الذي ما زال يسكن على صدرك عند صلاة الفجر.. لم تتبع أحداً ولم تكسرك العواطف القاتمة، وبقيت تصر على ملاحقة الفراشات حتى تعلمت منها كيف تذهب إلى ضوء الشمعة لتحترق وهي ترقص. لم يكن حسن الصباح نذير شؤم و”زرادشت” كحل عينيك حين ماتت الأفعى على الرمل، ولم يعد للدسيسة مكاناً في قلبك، روحك شفافة وأحاسيسك صافية، تعشق الماء كثيرا وتسرح مع النسيم وظل الغيمة رفيقك والشمس تجدد عظامك كل يوم. كتبت الشعر وكنا لا نفهمه.. كتبت الشعر حتى أن غبنا عن دفاترك.. كتبت الشعر وتألمت وبكيت حتى أن الدمع ترك أثر وادٍ قاحل ومهجور على خديك. أعرف أنك لا تكترث لكلامي، تماماً كما كنت وكما أنت الآن لا تعير واضعي القيود اهتماماً ولا تستكين لهم، حتى وإن مات قلبك في حبهم. نعرفك أيها الصديق الذي نأى الزمان عنه. نعرف أن عمرك وسنينك تمضي ولا تعود. نعرفك، سوف تصطدم بالوهن ولن تندم، نعرف ونعرف ونعرف.. ولكننا ما زلنا نشتاق إليك”. عند هذا الحد من العتاب، لم يعرف الرجل الذي كان وحيدا ماذا يصنع، سوى أن يكمل فنجان قهوته وينساب مع نظارة الوردة، ولم يعد موجوداً. saadjumah@hotmail.com