احتاج الأمر لأكثر من 35 ساعة، لكي تعود حواسي وتأخذ مساحتها الطبيعية في الساعات التالية؛ هذا ما لم أتوقعه عندما وافقت على فحص نظر تطلب وضع قطرة توسيع البؤبؤ لفحص الشبكية، والذي تسبب لي بإرباك كامل ومحزن لكل تفاصيل يومي واليوم الذي تلاه.
نردد بآلية النعم التي وهبها الله لنا منذ طفولتنا، وذلك أنه مهما قدَرنا نعم الواهب علينا، نبقى –مع ذلك- غير مدركين لحقيقتها إلا في حالة فقدها؛ فبالنقيض تعرف الحقائق، وليس أكثر حقيقة من إدراك كينونة حواسنا التي نملكها، نفهمها ونشعر بلذتها ونستمتع بها، ونستخدمها فيما يحافظ عليها، ونحمد المولى عليها، وإضافة إلى ذلك ننبه الآخرين إليها.
في تجربتي لم أتعرف فقط على حقيقة نعمة البصر في وقت ترجيت به حتى الشحوب، بل بنعم باقي الحواس التي تأثرت تباعا نتيجة توسيع البؤبؤ؛ فبالإضافة إلى عدم قدرتي لرؤية وسامة وجه طبيبي –والذي تكرر وصف من حولي له دون مراعاة لحالتي البصرية-، فقدت كذلك قدرتي على التركيز، وبدوت تائهة ابحث عن خيط أتلمس به أي معرفة، فلم أستوعب ثلاثة أرباع ما كان يشرحه الطبيب عن حالة نظري، ولاحظت فيما بعد فقداني لحاسة التذوق لدرجة ترجي طعم المرارة.
كل ما سبق من أعراض كان بجانب عدم قدرتي تماما على قراءة ومشاهدة أي شيء، فذهب يوما الأجازة الطبية سُدى؛ وعرفت كلمة «ملل» التي أسمعها أحيانا ولا أفهم لها معنى؛ ورغم ذلك لا أجد لاستخدامها سببا من قبل الذين منَ الله عليهم بكل الحواس؟!
سمحت لي هذه التجربة بإعادة النظر في تقدير حواسي، وفهم العلاقة الوطيدة والعضوية بينها، ومهما غاب التفسير العلمي لهذه الحالة، إلا أنها تبقى حقيقة؛ فهناك تشابك بين البصر والشم والتذوق والسمع وبالتأكيد اللمس؛ كما قدمت لي التجربة إحساسا مكثفا بالحاجة للآخرين، ولتوجيههم وربما لمساندتهم.
غير أن أكثر دروس تلك التجربة، إعادتي للنظر في أمور حساسة جدا تتعلق بتعاملي مع ذاتي، ومع حواسي، وبالتفكير جديا في شكل الحياة التي أريد أن أكملها مع نفسي ومع القريبين مني؛ لم يتوقف تأثير القطرة بعد زوالها إلى إعادة نظري لطبيعته من جديد بعد 35 ساعة، وإنما استمر بعد أن دفعني بلا سابق إنذار، لإعادة النظر في كل شيء.


Als.almenhaly@admedia.ae