ترى في الحياة أشخاصاً منذورين لعمل ما، ابتغوا لحياتهم ذلك المسلك من دون غيره، لا يهمهم قول الناس، ولا المغريات، ولا يبحثون عن حياة عادية تتساوى وحياة البشر الآخرين، منهم من أعلن جنونه في الحياة، ليعذره الناس، ويكون من المعذورين الدائمين، والمرفوع عنهم الحرج، وهذا هو الهروب أفقياً، ومنهم من تنسك واختلى بنفسه، ونأى بها في مكان بعيد ومجهول، وهذا هو الهروب عمودياً، ومنهم من تَدَرّوش تاركاً مسافة بين التجوال في أرض الله، والهروب أفقياً، وبين الالتزام بالعمل الصالح مرضاة لله، والهروب عمودياً، ومنهم الآخر الذي تبتل وترهبن وتصوف، وجعل لخطواته ذلك المسار الضيق والمستقيم حتى يبلغ نهايته الدنيوية، أما حياته الآخروية فهي الانطلاق والانعتاق والملذات الحقيقية من فاخر الملبس وسائغ الشراب والحور العين، هؤلاء يرون الأمر بمثابة سجن الجسد في الحياة، لتطهر الروح بعد الممات، ومنهم الآخر ممن يرى أنه موكول بمهمة سريعة عليه إنجازها في الحياة، ولو احترق الجسد أو تطاير أشلاء من أجل أن تصعد الروح من عذابات الحياة إلى برزخ النعيم! بالمقابل كيف ينظر الذين يتصارعون مع الحياة وقوتها وشياطينها وواقعها لهؤلاء البشر، بعضهم يعدهم من الهاربين من واقع الحياة وتعقدات أمورها إلى حياة ملئها الخيال البعيد، بعضهم يعدهم من البشر المسكونين بالخوف من المجهول، ومن القوى الخفية في الكون، فليجأون إلى تدمير الذات بطريقة أو أخرى، إرضاء لذلك المجهول الذي يخافون، والمصير الذي يعتقدون، وبعضهم الآخر يراهم من البشر الذين تعرضوا لصدمة كبيرة في الحياة لدرجة أن تأذت النفس، واختل العقل، وصار عطلاً في دواخلهم، فكان البحث الدائم عن سكون النفس الثائرة التي ما برحت تلوم صاحبها كل حين، وتطالبه بالتصرف الصحيح بأثر رجعي، والذي خانه في تلك اللحظة قبل الصدمة، لذا اختار ذاك الطريق الضيق في الحياة ليكفّر عن خطاياه تجاه نفسه أو تجاه الآخرين، ونشدان الخلاص بشكل عاجل أو أن يعمّر سنوات، ويخدم بعذاباته طويلاً، حسب أقداره ومقاديره. هؤلاء الذين نذروا أنفسهم، يتمنون لو أن الحياة تعيد شريطها من جديد، ويكونوا قادرين حينها على ذلك السبر، والوغول لرؤية المستقبل»ديجا فو»، ليتمكنوا من تجنيب النفس تلك المحطة الصادمة، والمنعطف التاريخي في حياتهم، والمنعرج الذي هز الجسد، وبلغ حد أذى النفس، وأخل بتوازنه الاجتماعي، ليضعه في طريق النذر الضيق، لعل شيئاً من عطب النفس يصلح، وتسكن، ولو حمل صليب عذاباته على ظهره صعوداً للتطهر والنجاة!