متى عرفت أمل دنقل؟ كان ذلك في الستينيات. عرفت أنه فاز في مطلعها بجائزة في مهرجان الشعر العربي الذي أقيم في مدينة الإسكندرية، وكان ذلك عن قصيدة عمودية لم ينشرها في ديوانه الأول الذي انفجر بكل غضبنا وإحباطنا بعد هزيمة العام السابع والستين، أعنى ديوان “البكاء بين يديّ زرقاء اليمامة” الذي كان نشره بمثابة علامة فاصلة في تاريخ الشعر السياسي الذي وصل به أمل دنقل إلى الذروة التي لم يسبقه أحد في الوصول إليها، وكان ذلك لصدقه وقدرته على أن يكون المفرد الإبداعي الذي يصوغ مشاعر الجمع. وقد نجح الديوان نجاحاً مدوياً، غطى حتى على قصيدة نزار قباني الشهيرة “هوامش على دفتر النكسة”. وكانت قدرة أمل دنقل على المزج بين الخاص والعام، أو النفاذ من خلال المشاعر الفردية للضحايا إلى المشاعر الجمعية لكل أفراد الأمة، فضلاً عن الصياغة العربية الرصينة، والمعرفة العميقة بالتراث العربي، والاختيار الناجح لرموزه التي يمكن أن تضيء بوصفها أقنعة رمزية، تنطق هزيمة الحاضر من خلال أشباهها في التاريخ القومي، فضلا عن جهارة الإيقاع والحرص على القضية التي كانت بمثابة محطات للنغم الممتد أو المتقطع كالصوت الذي يصل إلى ذروة انفعاله.. كانت هذه الصفات وغيرها هي السبب وراء النجاح المدوي لـ”البكاء بين يديّ زرقاء اليمامة”، ذلك الديوان الذي أسهم في إفراغ شحنات الغضب والانفعال. هكذا أصبح أمل دنقل بين عشية وضحاها واحداً من الشعراء المعدودين، وفي الطليعة من جيل الستينيات الذي ألقته يد الله في التجربة، وصهرته هزيمة يونيو 1967 كما تصهر النار المعدن الآبي على أي شيء. وأصبح أمل دنقل من بعدها شاعر قصيدة الرفض بامتياز . أما قبل ذلك فلم أكن قرأت بتأثر لأمل سوى قصيدتين ضمهما ديوان “البكاء بين يدىّ زرقاء اليمامة”، الأولى كانت قصيدة “كلمات سبارتاكوس الأخيرة”، والثانية كانت عن شهيد الإقطاع في المنوفية صلاح حسين وكانت الأولى عن أحد الانتخابات التي أقامها النظام الناصري في مطلع الستينيات وكالعادة، كانت النتيجة 99,99% وهي نتيجة استفزت الشاعر الرافض في أمل دنقل، فاختار شخصية سبارتاكوس التي كانت شهيرة في ذلك الوقت، بسبب رواية هاورد فاست الشهيرة التي جعلت منها هوليود فيلما أكثر شهرة بطولة كيرك دوجلاس الذي أدى دور سبارتاكوس محرر العبيد الروماني ببراعة نادرة. والتقى أمل هذه الشخصية التي أصبحت معروفة للجميع، وجعل منها رمزاً للثائر الرافض في الوقت الذي جعل قيصر موازياً رمزياً لعبد الناصر الذي فرض على الجميع طاعته، وعلّق المتمردين الذين تبعوا أمثال سبارتاكوس على مشانق الصباح. ولا أنسى قط، الشعور الذي انتابني في تلك الأيام، وأنا أقرأ المطلع الذي لا أزال أعده من عيون المطالع الشعرية النادرة إلى اليوم، ولا أحسبني سوف أنساه ما حييت، وما على القارئ سوى أن يرجع إلى ديوان “البكاء” ويقرأ القصيدة، ويتأمل المقطع، ويشعر بقيمة أمل دنقل الذي مرت ذكراه في صمت.