لعل من الهوايات الأولى، والتي نتمناها أن تبقى طوال العمر، لأن لها لذة ومتعة لا تضاهى، هواية التأمل، ووظيفة المتأمل، لا أدري لما المتأمل في صباحات الأجانب يجدها مطمئنة، وتسير على وتيرة يشتهونها؟ قد يتجول أحدهم هو وعجوزته في ذلك «المول» البارد بنسمة عطور مشاغبة تأتي من جانب المحل القابع في الزاوية الغربية، لا يشعرونك بعدوانية الصباح، حيث أنهم تناولوا فطورهم المتكامل باكراً، واكتفوا بشبع سيمكث معهم طويلاً حتى آخر النهار، بالتأكيد لن يشتروا أشياء يصادفونها في واجهات المحلات، لأنهم ليسوا بحاجة لها الآن، ولا يمكن أن تحتل أولوياتهم المرتبة في عقولهم، أقصى ما يمكن أن يعمله العجوزان في ذلك النهار أن يأخذا قسط راحة ودردشة في مقهى يعرفانه ويترددان إليه في عواصم العالم مع تذوق قهوة اليوم، وربما مع قطعة فطائر «بلوبيري مارفن لو فات» وسيمضيان ساعة يمضغانها مضغاً جيداً مع رشفات من القهوة التي مالت لأن تبرد قليلاً، قليلاً، وهما يتحاوران، ثم يصمتان كثيراً!
أما المتأمل فينا نحن.. فسيجد نصف العداوة الصباحية مصدرها عندنا من الأكل المتأخر ليلة الأمس، واليقظة المفزعة لأي سبب كان، مع عزوف عن تناول فطور ضروري، يصبح الواحد منا وطعم للمرارة لا يفارق كبده، ولو نظر له شخص وابتسم فلا بد وأن ينعته بـ«الخبيل» على الأقل في داخله، وإن حدّق شخص ما فيه، فغير مستبعد أن يبدأ تجاهه بعنف لفظي، وربما يتبعه بعنف جسدي، رغم خطورة العنف اللفظي الآن، وغراماته الكبيرة التي أصبحت تضاهي العنف الجسدي، في يومنا تغيب لحظات التأمل في ارتداء الكندورة على عجل، ورنين النقال من غير ضرورة تذكر، وما يزيد المسألة تعقيداً عدم وجود حديقة متناسقة في فناء المنزل، فلا تكون المشاهدة الأولى إلا لجدران إسمنتية مصبوغة دون مهارة، وقد يعكس الواحد منا ذلك على زوجته المهملة نفسها قليلاً، والمهتمة بالوجبات في المطبخ!
في حين قد تفاجئ العجوز الأجنبية زوجها بشراء محفظة جلدية صغيرة على مقياس بطاقات الائتمان، فيظل يشكرها ويتعهد بالمحافظة عليها، لأنها فاجأت نهاره بشيء جميل ومميز لن ينساه، وتكاد عيناه أن تدمعا صدقاً، يوجه حديثه الهامس في أذنها، فتحِنّ لشي جميل مضى، وكانت بحاجة له الآن، سيبقيان طوال الساعة يتحدثان عن تلك الهدية، دون رنين لهواتفهم النقالة!
صباحنا يبدأ بـ«الدريول خرّب السيارة» وهذا الخراب لابد وأن يعرف عنه كل الأصدقاء، «دفعة المزارع تأخرت»، «المستأجر لا يريد أن يخلي الشقة»، «الشغالة ما تنفع سفرّناها»، «انتقاء رسالة هادية ومرشدة بيوم الجمعة المباركة للأصدقاء، من بين 59 رسالة في نقالك، تبدأ تفككها، وكيف ترد على رسائلهم بأحسن منها» هناك عدم تركيز وتشتت وسلب ذهني، وتوجيه خاطئ لنفوسنا، ووقتنا في غير ما نرغب، وزاد الأمر سوء حر ورطوبة وضرائب!