كغيره من أيام رمضان الهادئة مر نهار الثلاثاء من شهر نوفمبر لعام 2004 الموافق للتاسع عشر من شهر رمضان المبارك، هكذا بدا لي ذلك اليوم عادياً جداً وخالياً من المفاجآت، هكذا كان حتى اللحظة التي كنت فيها انهي صيامي مع توالي صوت الأذان مالئاً سماء المدينة ومنبعثاً من مسجد الحي والأحياء القريبة، هل كان ذلك اليوم عادياً فعلاً ؟ بدا كأن شيئا يختبئ في زاوية ما من زوايا الزمان، بدا ذلك الشيء كانهيار جبل، أو سقوط نجم أو لا أدري ماذا·· لكن اللحظات التي تلت الإفطار تعكرت بإحساس غامض بعثر صفو الوقت وأثقل الهواء بشكل غير عادي! لم أشعر يوماً في رمضان برغبة في أن ألوذ بغرفتي كما شعرت ذلك اليوم، صامتة متعبة ومتهالكة وكأنني سقطت للتو من علو شاهق، أتحسس عظامي وأشعر بألم يجتاحني حتى أطراف أصابعي، وكنت أتساءل من أين انهمر على جسدي كل هذا التعب، حين توالت دقات الهاتف النقال، جاءني صوت صديقتي على غير عادته، تسألني هل تكتبين مقالك اليومي، أجبت بالنفي، قالت بصوت ذاهل: '' قومي ·· زايد مات'' !! وأغلقت الهاتف· لم أستوعب ما قالته، ولم أنطق بأي كلمة، ولم انهض، وأطل وجه من خلف الباب يسأل بصوت خائف وخافت، كان صاحب السؤال وكأنه يخشى أن يتلفظ بما لا يجوز ·· أخيراً تجرأ وسأل : هل صحيح ان زايد مات ؟!! وغاص شيء حارق كلهب، غاص عميقاً في كل جسدي حد ارتجاف القلب، شيء يشبه الرصاصة حين تخترق اللحم وتهشم العظم، تفتته وتبعثر الدم في وجه الوقت وتفاصيل المكان، ''مات زايد'' وملأت هذه الجملة فضاء المنزل بالذهول والبكاء، مذيع التلفزيون قرأ النص الرسمي بوجوم ظاهر وبكلمات لا تحتمل اللبس: '' انتقل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس الدولة إلى جوار ربه ''صار فقيد الأمة والوطن، إذن ''مات زايد'' وفي الغرفة المجاورة انطلق بكاء أمي حاداً، مؤلماً، لا يشبه سوى بكائها يوم جاءها خبر وفاة جدي منذ سنوات وقبله خبر والدي، فتت بكاؤها صمت المنزل، وخشوع صلاة التراويح !! ركضت إليها ألوذ بها، وأخفف شيئاً من فجيعتها، اذكرها بقضاء الله الذي لا راد لقضائه، واذكرني ·· امسك رأسها بين يدي، واقبض على قلبي الذي يرتجف بين ضلوعي، كانت تنتحب مفجوعة، وكنت انتزع كلمات الثبات لا أدري من أين·· بينما عمر كامل يبكي زايد الذي مات·· زايد الذي رحل كأنه أبي الذي كان جالساً في زاوية الغرفة ثم رحل فجأة إلى أبدية لا عودة منها· لقد ذهب الصوت الحنون الذي طالما أسدى النصح، ووجه وبسط الحقائق الكبيرة ببساطة الفطرة، ذهب أبن الصحراء بكل عنفوان الرجال الكبار العظام، بكل شموخهم وألقهم وصفاء أرواحهم، ذهب الأب الكبير الذي وقف دوماً في وجه الأعاصير والرزايا والمحن كجبل، لقد وقف في كل المواقف الصعبة ردها عنا وجاءنا مبتسماً كأنه لم ينفض يديه للتو من أعباء كالجبال، ذهب الإنسان الجميل، الإنسان الحقيقي الذي لم تلد صحراء الإمارات أكثر إنسانية ونبلاً منه ·· آه ·· ما أصعب الآه عليك·· يا زايد !! ملاحظة : ''كتبت هذا المقال في اليوم التالي لوفاة زايد عام 2004 وألحت علي ذكرى الرحيل اليوم أن أعيد نشره'' ayya-222@hotmail.com