نأتي إلى المدن مفتونين بالتصورات التي تخلقها الثقافة وتسهم في تكوينها كصور نمطية عنها، نبحث في سطوحها وبواطنها عن تحققاتها وما يؤكدها في الوعي· تلك عاصمة للنور وهذه للمآذن وأخرى للجمال، ورابعة للطبيعة ولكنها بعد الألفة والمعاشرة تعود ككل المدن تشبه بعضها بعضا، وتعطي منظرا مماثلا وإيقاعا متقارباً وتهبك رائحة واحدة تتساوى فيها العراقة والحداثة· فكرة ربما كانت المشغّل الباعث لاختراع مدن الوهم والحلم·· مدن الخيال الفاضلة كما تخيّلها الفلاسفة والأدباء، مدن أفلاطون وإيتالو كالفينو، ابن رشد وتوماس مور، ماركيز ومحمد خضير، مدن الذاكرة والمخيلة: الجمهورية ومدينة العميان، ماكاندو وبصرياثا، لكنها تثير تلك المسحة الملول التي تزيدها العولمة تجسدا ووضوحا وتعكسها كتابات المنفيين في المدن الغربية خاصة والمغتربين في فضاءاتها لا بتحريض من النوستالجيا المهيمنة على بعضهم والمنسلة إلى كتاباتهم بوعي وبدونه· المقاهي ذاتها وسلسلة المخازن الكبرى ومحلات البضائع والمتنزهات والملاهي والتخطيط العمراني المتناظر وطراز الحياة ذاته في المواصلات والبيوت ومرافق الخدمات والتعليم والعبادة والتجارة واللهو·· تناظر يجعل بعض الساكنين يزهدون بالسفر والتنقل ويكتفون بما في بيئاتهم فينعزلون من حيث تريد العولمة إدماجهم وتذويب هوياتهم الصغرى· لكأنها مدن استبق توماس مور وجودها ليقول قبل قرون في ''يوتوبيا'': ''المدن تتشابه تشابها مملا، ومن يعرف واحدة منها يعرفها كلها'' وتعود فكرة الخراب التي عززها كافافي بتحذير شعري، مؤداه انك إذا خربت حياتك في مكان فهي خراب حيثما حللت ممهدا لإشاعة الفكرة الظاهراتية عن التمثل البصري للأمكنة التي لا تمتلك وجودا مستقلا نهائيا بل هي متعددة المظهر بتعدد ما نسلطه عليها لحظة الإدراك من وعي وشعور وانفعال· لعل ذلك يفسر بعض الجوانب في نشاط مؤلفات الخيال العلمي وأفلامه ورسومه، واقتراب المخيلة الأدبية المعاصرة من البنية الأسطورية وفضاءاتها المتسعة بلا حدود فنستعيد مدن (ألف ليلة وليلة) التي لا ظل لها في جغرافيا الواقع وكيانه القائم··· مدن يلوذ بها الرجال والنساء ليفعلوا مالا قبل لهم به في مدن الحياة الماثلة والمتكررة، فيهربون لتلك البقع المتناهية في البعد والغرابة وحيث الطبائع تماثل الطبيعة، والوقائع تشاكل التاريخ المنسي لتلك المخترعات الخيالية، وليس غريبا أن تكون ألف ليلة وليلة مؤثرا مبكرا في تجارب أكبر كاتبين حالمين بالمدن البديلة: بورخس وماركيز اللذين لم يملا الحديث عن عالمها وتعرفهما السعيد على حكاياتها، فيروي لنا ماركيز في سيرته ''عشت لأروي'' قصة عثوره على (كتاب في خزانة معفرة في مستودع البيت مفككا وغير مكتمل) اجتذبه بشدة وعلقت قصصه بذاكرته وما هو إلا ألف ليلة وليلة التي يعترف أن قصة الصياد والجارية ستظل الأفضل عنده لما تبقى من حياته