هناك مصطلحان فرضتهما الظروف العالمية، وانتشرا في المجتمعات الحديثة، والساعية نحو التنمية والعصرنة، هما الشفافية والانسيابية، الأولى مطلوبة في مجتمع يسعى للتطور، وخلق الإنسان المتحضر الجديد، وهي مهمة للفرد، مثلما هي مهمة لمؤسسات المجتمع المدني· والكلمة الثانية الرديفة للشفافية، حتماً هي الإنسيابية، والتي تدخل أيضاً في حياتنا كأفراد ومؤسسات وأوطان، وهي من دلائل النمو والتطوّر، وعلامة فارقة للتحضر· اليوم حينما نذهب إلى البلدان الأوروبية مثلاً، لا نشعر أن هناك تعقيداً سيمسّ إيقاع يومنا، أو يمكن أن يربك خطوات اليوم، الشرط الوحيد لكي تدخل في انسيابية هذا المجتمع، هو أن تكون ملتزماً، وقابلاً أن تدخل في روح قوانينه، وتفهم معاملاته، وتعامله مع الزمن والأشخاص، لا فرق بين عربي أو عجمي إلا بالمعرفة، والالتزام، واحترام قانون الواجب والحق، لا يمكن أن تنجز معاملة بسيطة في تلك المجتمعات إذا كانت أوراقك ناقصة، غير أن الموظف لن يتعبك كثيراً، وسيحترم وقتك، ويحترم بداية عدم معرفتك، وسيطلب منك ما هو مطلوب، وسيحدد ساعة في يوم آخر لاستكمالها· عندنا نحن العرب من محيطنا إلى خليجنا، يمكن أن تنجز هذه المعاملة بدون تلك الأوراق، لأن المطلوب منا مرّة يكون حجر عثرة، ومرّة يكون صابوناً يزلق المسائل ويسلّك الأمور، ومرة أخرى يمكن أن لا تنهى هذه الأوراق حتى لو كانت كاملة المعاملة، لأن طريقها مسدود، مسدود، بدون مراجعة الطباع الذي تحت، وبدون إحضار أصل الأوراق، وبدون مزاجية الموظف أو كسله، وبدون وجود موقف للسيارات، وبدون الموظف المختص لأنه مجاز، وبدون تعال بكرة، وبدون المعرفة والواسطة وتوصية فلان، وتزكية علاّن، وبدون رشوة أحياناً· كل هذه الأمور تبدو أنها ضد الانسيابية في عمل مؤسسة ما، وهي مفقودة في المجتمعات المتحضرة، موجودة بكثرة في المجتمعات النائمة· الانسيابية هناك·· في المجتمعات المتحضرة، تبدأ في التعامل مع المطار، وموظف الجوازات، في اختراق الحدود، وفي التعامل مع الشرطة، ومع المرافق العامة الأخرى، ومع الأسواق، والمطاعم، والبنوك، وانتهاءً بالتعامل مع حارس البناية، كل هذه الأمور هناك منظمة ومكتوبة وكل شخص يعرف حقّه، وما عليه من واجب، أما في عالمنا العربي فالانسيابية عالقة لسبب أو لآخر، وإن كانت ماشية، وضعنا أحجاراً لإعاقتها· راجين أن لا يفهم من كلامنا هذا أنهم مجتمع مثالي، ولكن دائماً يحاولون الصعود إلى أقصى مرتبة المثالية، في حين نحن ننحدر إلى مزالق وهاويات لا نعرف نهايتها، راجين أيضاً أن لا يفهم من كلامنا أن المجتمع العربي كل الأمور عنده صابون، هناك محاولات جميلة ومتحضرة في بعض المؤسسات الراقية فقط، هؤلاء لهم كل التقدير على الانسيابية التي أصبحت اليوم عنواناً لتميزهم، ونجاحهم الدائم، وليقبع في مكانه كل من يتخذ من عدم الانسيابية شعاراً له، سواء كان فرداً، أو مؤسسة، أو مجتمعاً، فاليوم المجتمعات التي تنشد العافية، وتسعى للرقي يدفعها محركان الشفافية والانسيابية